قبل طرح هذه الأسئلة قد يجدر التنويه، ومنعًا للّبس، إلى استدراكين أساسيين: أولهما، أن الثورات لا تأتي وفق وصفات نظرية جاهزة ومسبقة، وإنما تأتي على شكل انفجارات، “لا يمكن” هندستها، ولا التحكّم بمساراتها، ولا التكهّن بتداعياتها. وثانيهما، أن الثورات لا يمكن التنبؤ بمآلاتها؛ إذ يمكن أن تنجح، أو تنجح جزئيًّا، كما يمكن أن تفشل، وفضلًا عن كل ذلك، فهي يمكن أن تنحرف أو تُحرف عن مسارها، أو عن مقاصدها الأساسية.
وعلى ذلك، فإنّ الوقوف مع أي ثورة لا يشترط عليها؛ لأن الانحياز لها، لاسيما في حال انفجارها، انحياز للضرورة التاريخية، أي: لسياق التاريخ ولقيم الحق والحرية والعدالة، وانحياز للضحايا ضد الظلم والاستبداد. بيد أن هذا لا يعني عدم نقد المظاهر الخاطئة للثورة، أو انحرافاتها، في خطاباتها ومساراتها وبناها وأشكال عملها، فثمة فرق بين الثورة بحد ذاتها، كفعل ضروري ومشروع، وبين الكيانات أو الشخصيات التي تدير العملية الثورية المفترضة؛ إذ إن النقد من أبجديات الفعل السياسي، ودلالة على حيويته وديمقراطيته ومسؤوليته.
تأسيسًا على ذلك، ثمّة أسئلة عديدة مسكوت عنها بخصوص ثورة السوريين، وهي أسئلة مترابطة، وتتطلب نوعًا من الجرأة الأخلاقية والسياسية في طرحها، فضلًا عن محاولة الإجابة عنها، خاصة بعد كل ما مر، وبعد هذه التجربة الغنية، وبعد الأثمان الباهظة.
– أول هذه الأسئلة يتعلق بطبيعة ثورة السوريين؛ فمثلًا، هل كان من المحتّم أن تذهب هذه الثورة إلى الحد الأقصى، في كل شيء، في الخطاب وأشكال العمل والمرتجى؟ ليس القصد أن المطالبة بإسقاط النظام كانت خطأً؛ فهذا شعار مشروع، وإنما القصد أن القوى التي تصدرت الثورة كان يُفترض بها إدراك أن الأمر لا يتعلق بالشعارات والحقوق فحسب، وإنما بالإمكانيات والقدرات. وكما شهدنا، فقد طغت العفوية والتجريبية والمزاجية على الثورة في كل شيء، وكان هذا طبيعيًا ومفهومًا في البدايات، لكنه بعد مضي عام تلو العام، اتضح أنه يثقل على الثورة، ويبدد تضحيات السوريين، وهكذا لم تتوافر للثورة قيادة واقعية وعقلانية، بل لم يتوافر لها أي شكل من أشكال القيادة، لا في السياسة ولا في العسكرة، والمعنى، فقد كان من شأن توافر هكذا قيادة أن تحاول تحديد الأهداف الممكنة، والأساليب الأنجع في مواجهة النظام، وأن تقلل -ما أمكن- من الخسائر، كما كان من شأنها الحذر من الاستدراج نحو العسكرة، أو نحو التسهيل على النظام إخراج الشعب من معادلة الصراع، إن بتشريد ملايين السوريين، أو من خلال فرض الحصار عليهم وقصفهم، في ما بات يُعرف بالمناطق “المحررة”، كذلك، كان من شأن قيادة -كهذه- معرفة متى ترفع هذا الشعار أو ذاك، ومتى تستخدم هذا الشكل الكفاحي أو ذاك، ومتى تتراجع ومتى تتقدم. وأخيرًا، فقد كان من شأن هذه “القيادة” أن ترى في خروج السوريين إلى الشوارع، ونزع الخوف من قلوبهم، ثورة في حد ذاتها، من دون ترك الأمور تصل إلى ما وصلت إليه، وهو الأمر الذي اشتغل عليه النظام بدأب وصبر ملحوظين. وباختصار، فقد كان يمكن عدّ ما حصل، في العام الأول، كمرحلة من مراحل الثورة، أو تجربة، أو محطة على طريق محطة ثورية آتية، مثلما حصل في تجارب الشعوب الأخرى.
– أما السؤال الثاني، فهو: هل كان من المقدّر للثورة أن تقتصر على البعد العسكري، وأن تفقد بعدها الشعبي، ومظاهرها الشعبية؟ وهذا السؤال لا ينطلق من عدم شرعية العمل العسكري ضد نظام، رفض العمل بالوسائل السياسية مع ثورة السوريين، بأشكالها الشعبية والمدنية، واستخدم -منذ اللحظات الأولى- الجيش وقوات الأمن والشبيحة، ثم أدخل ميلشيات إيرانية وعراقية ولبنانية وأفغانية على خط الصراع، فضلًا عن القوات الجوية الروسية بعد ذلك. أي: إن سؤالًا كهذا، ينطلق من تحميل النظام المسؤولية عن كل ما يجري في البلد، كونه حكم منذ أكثر من أربعة عقود، بما في ذلك مسؤوليته عن اندلاع الثورة؛ نتيجة سده الأفق أمام التغيير والتطور الديمقراطي، ومسؤوليته عن التحول نحو العسكرة والصراع العسكري.
وربما من المفيد التنويه -هنا- إلى ضرورة التمييز بين نشوء الظاهرة العسكرية في الثورة، المتمثلة بانشقاقات الجنود والضباط وتشكيل (الجيش الحر)، وتشكيل جماعات أهلية مسلحة؛ للدفاع عن الأحياء والقرى، من جهة، وبين دخول بعض الدول على خط إنشاء جماعات مسلحة، ذات خلفية أيديولوجية معينة، وتقديم المال والسلاح إليها، من الجهة الأخرى؛ فإذا كانت الظاهرة الأولى بمنزلة نتاج طبيعي للصراع الدائر بين النظام وأغلبية الشعب، فإن الظاهرة الثانية كانت تعبيرًا عن التداخلات والتلاعبات الخارجية بالثورة، والتي أرادت، من وراء أخذها نحو هذا الاتجاه، السيطرة عليها، والتحكم بتداعياتها، وضمن ذلك، فرض أجندة معينة على خطاباتها وأشكال عملها، وهو ما أضر بها، وبصدقيتها، كما أضر بالسوريين، لأنّ هذا الوضع أخذهم نحو الحد الأقصى، كما قدمنا، من دون تقديم الإمكانيات اللازمة لذلك، ولا حتى على مستوى فرض مناطق آمنة أو فرض مناطق حظر جوي، أو تقديم مضادات للطيران، وبالطبع، فإن السؤال المطروح -هنا- يستبطن سؤالًا آخر، عن جدوى اعتماد ثورة ما على الخارج، فالدول لا تشتغل كجمعيات خيرية، وإنما تشتغل لأجندتها ومصالحها، وكان الأجدى لثورة السوريين أن تعتمد على شعبها، وان تشق مسارها وأشكال كفاحها بحسب إمكانيات شعبها، لأن الاتكاء على الخارج هو الذي أوصلنا إلى ما وصلنا إليه.
– والسؤال الثالث، يتعلق بخطابات الثورة السورية، فهل كان من الطبيعي الذهاب نحو خطابات دينية، أو خطابات أيديولوجية، ومن لون واحد، في ثورة يُفترض أنها قامت ضد احتكار السياسة، وضد اختصار الشعب بجماعة معينة، وضد الاستبداد؟ واضح -هنا- أن الخطاب الأحادي كان خطابًا إقصائيًّا، وأن هذا الخطاب الذي اختصر السوريين بما عدّه (أكثرية)، لم يحظ حتى على ثقة الأكثرية التي ادعى تمثيله لها، فضلًا عن أنه أضر بإجماع السوريين، وأثار المخاوف بينهم؛ ما أفاد النظام، وعزز ادعاءاته عن دفاعه عن الأقليات، بدل نزع هذا السلاح من يده، وزعزعة سيطرته على الجماعة التي يدعي أنه يمثلها. والفكرة -هنا- أن سورية لا يمكن أن تبقى بدون السوريين، بكل مكوناتهم، وأن الثورة كانت بحاجة إلى تشكيل وعي جمعي، وهوية جمعية تؤكد على العيش المشترك، والقبول بالمختلف، واحترام التعددية في دولة مواطنين ديمقراطية، يتمتع فيها الجميع -رجالًا ونساء- بالحقوق ذاتها، وفي مقدمتها الحق في الحرية والمساواة والكرامة والمشاركة السياسية.
ثمة عديد من الأسئلة المهمة والملحة، محجوبة ومسكوت عنها، في خضم الصراع السوري، لكن هذا ما أردت أن أركز عليه، وأفتح النقاش بخصوصه.
* * *