يقفُ هنالك كشاهدٍ في حضرة التاريخ، لكنّه يعترف عن نفسه -بدايةً- أن له براعةً في الاختلاس، يختلس النظر، يختلس السمع، يختلس الصور، يُخبئ في جعبةٍ مخفيةٍ حكايات أهل الدار.
هو جيرون وهي دمشق، هو بابها وهي داره، قد جمع أسرارها وأرشف في صدره ذاكرةً مصنوعةً من نور، أو ربما من غار، كماسحٍ ضوئي، يُخبرنا -في قوسه العُلويّ- أنّ دمشق لم تكن مدينةً عادية القسمات، وهي التي قد نسخت -في هيبة المقام- كواكب السماء.
باب جيرون الذي حجز مكانه نحو شروق الشمس في الجامع الأموي، صلاته للفجر كحارس المعابد القديمة، بدءًا من معبد حدد، قبل ألف عام من الميلاد، حيث بداية العهد الآرامي، مرورًا بمعبد الإله جوبيتير، عندما تمدد الرومان نحو الشام، هو ذاته قد أصبحت أركانه كنيسةً، حملت اسم يوحنا المعمدان، أو نبيّ الله يحيى بن زكريا عليه السلام، وهناك في حرم الجامع دُفن رأسه. هذا المعبد الكبير الذي أصبح جامعًا في العام الرابع عشر للهجرة، حيث أعاد بناءه الوليد بن عبد الملك، وصار اسمه الجامع الأموي نسبة لبني أميّة، حين أصبحت دمشق عاصمة الخلافة الإسلامية.
باب جيرون الواقف كأحد العمالقة الذين يصعدون من فانوسها السحري، إذ إن دمشق التي أخذت لقب أقدم عاصمة في التاريخ الإنساني، هي -كلها- فانوس سحري، يُخرج من كل جانب منه ماردًا يختصر حكاية تاريخ، وجيرون هو ماردٌ كأكبر الأبواب المدهشة التي تعانق الضياء، هكذا أراده من أخذ اسمه، إنه الملك، جيرون بن سعد بن عاد، حفيد النبي نوح عليه السلام، هكذا روت العرب، وهو الذي أنشأ مدينة جيرون، والتي أصبحت -في ما بعد- دمشق.
دمشق التي تشير دلائلها العملاقة تلك، إلى أن الإنسان قد سكنها في الألف الثانية قبل الميلاد، ومن خلال بابها، باب جيرون، كان قد دخلها وخرج منها ملايين البشر، أفرادٌ أو أقوام كاملة، بعاداتهم وسحنتهم، بعباداتهم وتقاليدهم وأزيائهم ولغاتهم، خلال آلاف الأعوام التي عبرت على تلك المباني والحارات، ومعها عبرت ملايين المعاني والقصص، بعضها في جعبة جيرون، تنبض بالأمل، وبعضها في جعبة الجامع تنبض بالدرر، وبعضها في جعبة الشعراء تنبض كالنهر، إذ قال عنها شاعرها، نزار قباني:
كتب الله أن تكوني دمشقًا بك يبدأ وينتهي التكوين
إن نهر التاريخ ينبع في الشام أيلغي التاريخ طِرْحٌ هجين
باب جيرون المطلّ -أيضًا- على حي النوفرة الدمشقيّ، الذي يتربّع بجوار جامع بني أميّة، هذا الباب وُصف بأنه مصنوع من خشب الصنوبر القاسي، وهو مزيَن ومغلّف بالنحاس، وعندما حُرق الجامع الأموي، وامتدت النار إلى حي النوفرة عام 1250 ميلادي، تشوّه باب جيرون، ثم عندما جاءها المغول بجيشهم عام 1400، بقيادة تيمورلنك، تمّ التشفّي بإتلاف هذا الباب، من أولئك الذين أقلقتهم عاصمة الحضارة حينها؛ فغزوها مدمّرين.
بجوار باب جيرون نشاهد بعض الأعمدة التي ما زالت منتصبة؛ لتعطي للمؤرخ والزائر فكرة عن سور المدينة من الشرق، ولأجل تنظيم الحركة من، وإلى، المدينة خلفه؛ فإن هذا الباب الكبير يحوي -على جانبيه- بابين صغيرين، مغلفّين -أيضًا- بالنحاس والمسامير الكبيرة، بطريقة فنيّة على النمط المملوكي، حيث الزمن الذي أعيد ترميم هذا الباب فيه، والبابان الصغيران يُفترض أنهما يُفتحان للحركة اليوميّة العادية، بينما يُفتح الباب الكبير لمرور المواكب والقوافل وغيرها؛ فهو الباب والحارس والشاهد.
جيرون أو دمشق، باقية كفاتحة التاريخ والحرف والمهن، ومؤتمنة عليه؛ كي تورثه لأحفادها أيقونة في جعبة الفانوس، لربما الأحفاد إن تلمّسوا الفانوس سيخرج المارد؛ لكي يُخبرهم أن هنا امتزجت حضارات الأمم، ينبئهم أنّ هنا، وفي آذار/ مارس عام 2011، قد خرج ماردٌ، يُجدد كتابة القانون من دمشق، أبوابه أبوابها، أقدمهم جيرون.