ما بين براميل انتقام محشوة بالبارود والخردة، وبين مدافع قاسيون، وما بين عناصر الحرس الجمهوري وميليشيا حزب الله، والحصار الخانق، بقيت مدينة داريا تنبض بالحياة، صامدة بعزّة في وجه آلة قتل عنيفة، وتواظب على انتمائها إلى روح ثورة شعبية، خطّها السوريون على جدران الأمل بكل جوارحهم.
جغرافيا حرجة
تتربّع المدينة على مساحة منبسطة، جنوبي العاصمة دمشق، تبلغ 4.760 دونمًا، وتتميز بموقع حرج حاليًا بالنسبة لوجود النظام؛ حيث تُطل عليها سلسلة تلال وجبال من الشمال والشمال الغربي، وهي معقل الحرس الجمهوري، ويقع مطار المزة العسكري شمالها، وشرقها طريق دمشق- درعا الدولي، بما يمثله من أهميّة حيويّة للنظام، وإلى الجنوب منها تقع كل من صحنايا، وأشرفية صحنايا، مع ما تحتويان من تنظيمات ولجان للدفاع عن النظام، تحت مسمّيات مختلفة، وإلى الغرب قليلًا توجد المساكن العسكرية التابعة -بشكل عام- للحرس الجمهوري.
تلك الخصوصيّة، بموقع هذه المدينة، وتداخلها جغرافيًا مع مدينة المعضمية المحاصرة -أصلًا- من قبل النظام؛ جعلت منها حكاية لها طعم خاص، فاستمرار المعارك والحملات التي يقوم بها النظام بغية السيطرة عليها، ومع تكثيف غارات الطيران الحربي والمروحي، والذي لا يكاد يفارقها حتى يعود، يأتي صمودها حالةً استثنائية، ملفتة لكل من يتابع الشأن السوري، وتطور الثورة أو انتكاساتها خلال الأعوام الخمسة الماضية.
يشار إلى أن داريا من أوائل المدن الثائرة، وكانت أولى مظاهراتها الداعمة لدرعا، في 25 آذار/ مارس 2011، وهي مدينة مازالت تحافظ على اقتصادها الزراعي، من جهة، وعلى اقتصاد صناعيّ وحرفيّ مهم جدًا، حيث يمكن عدّها معملًا كبيرًا للموبيليا، وقد تميّز أهلها بحبهم للعمل والعلم. كان يبلغ عدد سكانها -قبل الثورة- أكثر من 250ألف نسمة، لكن بقي فيها الآن قرابة ثمانية آلاف شخص فقط، بحسب المجلس المحلي للمدينة، وهم محاصرون جميعًا، مع غيابٍ كامل للخدمات العامة بكل أنواعها.
داريا كابوس للنظام
المهندس محمد مظهر شربجي، ناشط مدني من داريا، يقول لجيرون: “أنظر إلى مدينتي وجيشها الحر وأبطاله بالفخر والاعتزاز؛ لصمودهم في وجه آلة القتل والدمار من كاسحات الألغام الروسية، وصواريخ موجهة -يوميًا- من كلّ حدب وصوب، فقد باتت داريا تمثّل كابوسًا للنظام؛ كونها تُطلّ على مواقع عسكريّة وأمنيّة؛ ما دفعه الى إخراجها من أي صفقة تفاوضية، ولكن على الرغم من الحشود المتكررة لاقتحام المدينة، لم ينجح النظام في ذلك، وكان خياره الأخير عزل المدينة، حيث تمكن من قطع الطريق بين داريا والمعضمية عبر البراميل والصواريخ، وبات الطريق مقنوصًا، وسيطر عليه النظام بشكل كامل، بعد أربعة أشهر من الصراع المستميت” .
عمار ديراني، أحد أبناء هذه المدينة، يصرّح لجيرون -أيضًا- أن “أكثر من 7000 برميل متفجر، قد أُلقي على داريا المحاصرة، منذ أكثر من أربع سنوات، فضلًا عن الصواريخ وقذائف المدفعية؛ فقد أصبحت أصوات الانفجارات وجولات الطيران جزءًا من الحياة اليومية”.
وحول المقاتلين، داخل المدينة، يضيف عمار: “لا يوجد في داريا إلاّ أبناؤها، وهم من يحمل السلاح، وجميعهم عاهدوا الله على أن يدافعوا عن أرضهم، حتى آخر قطرة دم، وأشير إلى أن العديد من المقاتلين هم من الذين قتل النظام أهاليهم في مجزرة داريا الكبرى، في 26 آب/ أغسطس 2012″، ويرى عمار: “أنه لولا وجود الشبيحة في كل من صحنايا والأشرفية؛ لكانت الأمور -بالتأكيد- أفضل”.
على هذا يقول المهندس شربجي: “إن تميز داريا عن باقي المناطق السورية، الخارجة عن سيطرة النظام، يعود إلى أن المدينة يوجد فيها فصيلان عسكريان، هما لواء شهداء الإسلام وأجناد الشام، اللذان يعملان ضد نظام الأسد، منذ عام 2012، حيث اتبعا السياسة العسكرية الصارمة في المعارك، وحتى في الحياة اليومية، ومنع ظهور أي فصيل في المدينة”.
مجلس محلي مستقل ينسق مع المجلس العسكري
بالنسبة إلى المجلس المحلي لمدينة داريا، يوضّح عمار أنه لا يأخذ أوامره من الخارج، وكافة قراراته يتخذها مع المجلس العسكري العامل في داريا، ويضيف: “كل من حاول أن يشتري ولاء المجلس من الخارج قد فشل؛ حيث أن الشرط الدائم على الداعمين أن يدعموا بدون شروط وإملاءات”. الملفت في هذه المدينة، هو ذلك التنسيق الواضح بين المجلس العسكري، والفصائل المقاتلة، وبحسب شربجي؛ فإن ما ساعد في إظهار هذه الصورة الإيجابية، من التعامل بين العسكر والمدنيين، هو أن “المقاتلين لا يتدخلون في الحياة اليومية للناس، بل تُترك للمجلس المحلي المنتخب، وهو السلطة العليا في المدينة المنكوبة”.
لا شك في أن للصمود أسباب متعددة، فإن كان منه ذلك التنسيق، بين المقاتلين والمجلس المحلي، والتكافل والتكاتف في خدمة الأهالي، والدفاع عن أعراضهم وممتلكاتهم العامة والخاصة؛ فإن هنالك -أيضًا- مقومات أخرى، ساعدت -بالتأكيد- في تميّز هذه المدينة وصمودها، وربما تعطينا وجهة نظر المهندس شربجي -أيضًا- بعض الملامح، ومع إيمان الصامدين، في داريا، بعدالة قضيتهم، يرى أن “وجود فصائل وطنية معتدلة، لم تتلوث بالحزبية الضيقة، هو ما ساعد على الصمود، وقد ردّت غلاة المناهج خائبين، كما أن تلك الفصائل لم تشغلهم إمارات وهمية، ولا السيطرة على أبنية أو حارات مهجورة، بل حملوا هموم وألام أهاليهم، وهم ملتزمون بالخطط والأوامر، وإن قياداتهم تسبقهم إلى المعركة، ولا ينتظرون إذن مموّل ليقاتلوا”.
يتابع شربجي: “سلاحهم الأهم هو التشاركية في الرأي والاستشارة”، و” إنهم شباب صادق، كما نحسبهم، يقاتلون بشجاعة، ويرسلون لإيران وحزب الله رسائل يومية بالدم، مفادها: لن يمروا”.
صمود بلا بيانات أو استعراض
من الواضح أن داريا بقيت شوكة في حلق النظام، وأن دخول بضع شاحنات، كمساعدات غذائية ودوائية، إليها مؤخرًا، وطريقة ضبط أبنائها للأمور، والذي كان واضحًا أمام الإعلام، تلك المساعدات لا تسد رمقًا لمدينة منكوبة، لكنها تساعد بشكلٍ ما، إذ يتطلع الأهالي المتبقون داخلها، والمجلس المحلي، إلى أن تتحمّل المنظمات الدولية المعنيّة مسؤولياتها، وهم على استعداد للتعاون التام معها.
لا بدّ من الإشارة إلى أن الإعلام مازال مضبوطًا في داريا، بلا فوضى في إعطاء المعلومات ونشر التقارير؛ وهذا ساعد في طرق التنظيم والتواصل المدني، في هذا الوضع الاستثنائي، ولعل المراقب يلاحظ أنه لم يظهر، حتى اللحظة، أي فصيل، يصوّر فيديو انتقام في هذه المدينة؛ على الرغم من كل مجازر النظام، كما لم يلاحِظ أيَّ بيان عسكري منشورًا في فيديو، لتشكيل فصيل هنا أو كتيبة هناك، في داخلها بطريقة غير منضبطة، ولا حتى أي احتفاء بتحرير هذه البناية أو تلك الحارة، وهنا، لا بد من الإشارة إلى أن النظام قد خسر أكثر من خمسة قادة حملات على محيط هذه المدينة، ومن رتب عالية، علاوة على خسائر ميليشيا حزب الله، وكذلك ما ظهر -أخيرًا- من عناصر تحت اسم الحرس القومي العربي، وهو خليط عربي، يقاتل تحت شعار (القومية البعثية الأسدية)، كمرتزقة على الأرض السورية، وقد قُتل أحد الجزائريين، في 14 أيار/ مايو من هذا العام، على أطراف هذه المدينة الصامدة والصابرة.