صباحًا، قمتُ بجولةٍ فيسبوكية على أكثرَ من خمسين صفحةٍ، ومجموعةٍ أدبية عربية، وأغلبها توقفتُ عن النشر فيها وعبرها، ليس لأنها غير مُهمّة، أو لأنّ المشاركين فيها غير مُهمِّين، بل لأنها باتت تُعَانِي من المشاكل ذاتِها، التي عانتها المواقع الأدبية الإلكترونية والمدوّنات، قبل انطلاق مواقعِ التواصل الاجتماعي وأبرزها عربيًّا: الفيس بوك.
وكانت كثير من المواقع الإلكترونية الأدبيّة، قد أطلقت نسختها “الفيسبوكيّة”؛ فزاد المشاركونَ فيها، وقرّاؤها، عدديًّا فحسب، من حيث أنها عامة ومُتاحَةٌ للجميع، ومع ذلك لم تتجاوز أفضلها سقف العشرين ألف مشارك، والقليلُ منها مجموعاتٌ مُغلقة، يقتضي الاشتراكُ والنشرُ فيها مُوافقةً مُسبَقة.
من جولتي الصباحية هذه، رأيتُ ما يراه الرحَّالَةُ عادةً، ومِمَّا رأيت:
– لا يتجاوز عدد أعضاء أهم الصفحات الأدبية 5 آلاف مُشترِكٍ وسطيًّا، ومن كلِّ البلاد العربية، وأغلبها شِبهُ مُغلقةٍ على أبناء البلد العربي الذي انطلقت منه، على الرغم من وجود مشاركين من بلدان عربية أخرى، لا يتعدُّون ثُلثَ عددِ الأعضاء، في أحسن الحالات، وهي لا تختلف عن الصفحات والمجموعات التي تدَّعي أنها تُمثَّلُ إبداعيًّا، وليس رسميًّا أو نقابيًّا، كلَّ الكتّاب العرب، من مثل صفحة “منتدى المبدعين العرب،”، أو مجموعة “رابطة المبدعين العرب” التي لها فروع طوعيَّة في أكثر من بلد عربي.
– التشابه النمطيّ بين كثيرٍ من الصفحات، من مِثلِ وجود عشرين مجموعة، أعرفها تتمركز حول قصيدة النثر، أو الشعر العربي المعاصر بنوعيه: التفعيلة والنثر، ويكاد بعضها يدّعي أنه الممثل الشرعيّ والوحيد لهذا الجنس الأدبيّ أو ذاك، وبعضها يصل ذروة نشاطه، ثم ما يلبث أن ينحسر إلى درجة الجمود مشاركةً
وتعليقات، ثمّ لا تلبث الانسحابات الخجولة والصامتة منها، أن تتزايد شهرًا وراء شهر.
– معظم الصفحات الأدبية تحت إدارة شخصٍ واحد، ولا أقصد الصفحات الشخصية لكلّ أديبٍ؛ فهذا أمرٌ بديهيّ، وإنما الصفحات والمجموعات الجماعية، فقلّمَا وجدتُ لها إدارةً جماعيّة، وهذا يعني أن أغلبها قد ظهر كمُبادرةٍ شخصية، وليس عن مبادرة جماعية، طالما أن العمل الجماعيّ -في دنيا العرب- لم يتبلور كمفهوم في مجتمعاتنا، ولا كدليلٍ على الحِرَاك المدنيّ واسعِ الطيف، مع التنويه إلى أن الفعل الثقافي نتاجُ نخبةٍ من المجتمع، قد تكون أكثر الشرائح بُعدًا عن القاع الاجتماعيّ في بلدانها، وحتى عن فئة المتعلمين، بل عن الرأي العام العربيّ، من حيث لا يتجاوز مُعدَّل القراءة -عند المواطن العربي- أكثر من 7 ساعات سنويًّا، بحسب آخر إحصاءٍ لليونسكو.
– طغيان المقاطع الأدبية القصيرة والسريعة، وخاصةٍ في الشعر، والازدياد المُلفت للنظر -غير الطبيعيّ- إلى عدد كتّاب القصة القصيرة جدًا، في حين أنها من أصعب أنواع الكتابة، ومثلها مقاطع الشعر على غرار الهايكو الياباني،، و ضآلة عدد المجموعات التي تُعنى بالرواية العربية، وهو أمر مُثير للغرابة، في ضوء انتشار هذا الجس الإبداعيّ المُتزايد منذ عقدين، وتحوُّل كثيرٍ من الشعراء و القاصّين، وحتى من المسرحيين، إلى كتابتها، كما في عدد الروائيات العربيات اللافت للنظر أيضًا، خلال هذا العقد من القرن الحالي، قياسًا إلى القرن الفائت.
– ثلثا الصفحات التي استطلعتُها، يكادان يخلوان من أيِّ تعليقٍ جادٍ، إلاّ بداعي المجاملة، وخاصةً من الذكور للإناث المُشارِكات بنصوصهنّ، وهي ظاهرةٌ تستدعي التحليل النفسيّ! إضافةً إلى غياب الإضاءة على المشاركة الأدبية وتحليلها نقديًّا، بل إن كثيرًا من النصوص الإبداعية، لا تجد إبداء إعجابٍ واحدٍ على الأقلّ، إلى درجةٍ أنّي تخيّلتُ في بعض الصفحات -مع الاعتذار والأسف- أن أعضاءها كما لو أنهم يُمارسون العادة الأدبية السريَّة، أو من باب التذكير بأننا على قيد الإبداع و الكتابة، فإذا مات عضوٌ منها، فجأةً، استيقظت المجموعة كلُّها من سُبَاتِها لرثائه، ثمّ يمرُّ أسبوعٌ واحد فحسب، فيُصبحَ الكاتبُ المرحومُ في ذِمَّة النسيان، لا يتذكّره إلا من نَدَرَ من أعزّ أصدقائه، غير الافتراضيين.
– اللافت للنظر، وخاصة في فضاء الفيس بوك العربيّ، بأن المجموعات السياسية، أو التي تُعنَى بالحدث اليومي المُباشِر، والصفحات الانتقادية والساخرة، قد ازدادت منذ ستِ سنواتٍ، مع بدء ثورات الربيع العربي، وازداد استقطابها لشرائح واسعةٍ من الشباب العربي، ولسواهم أيضًا، بينما بقيت الصفحات الإبداعية رهينةَ شريحتها النخبوية، كما ازدادت مساهمات الشباب العربي -عمومًا- في الصفحات والمجموعات الفيسبوكية، وانتشرت -على نطاقٍ واسعٍ- صفحات لهم، وبعضها، كصفحة “كلّنا خالد سعيد” المصرية، وجدت لها نسخًا مُشابهة في كلّ بلدان الربيع العربي.
بينما عانت الصفحات الإبداعية من أمراض النخبة الثقافية ذاتها، وتحوَّلَ النقاشُ الأدبيُّ فيها، إلى نقاشٍ سياسي استقطابيّ حاد، ما بين مثقفي السلطة، والمثقفين العرب، الذين انحازوا إلى ثورات الربيع العربي.
قد تنطبق أغلب هذه الملاحظات على صفحات، ومجموعات، الموسيقى والمسرح والسينما والتشكيل، بدرجاتٍ مُتفاوِتِة، مع الإشارة إلى أن النتاج الثقافي الفني، ليس استجابة فيزيائية أو كيميائية، لما يحصل في الواقع، وأن التعبير عن التغيرات السياسية والاجتماعية، المتلاحقة في بلادنا العربية، وخاصة في بلدان الربيع العربي، قد تحتاج لسنواتٍ قادمةٍ حتى تظهر في النتاج الإبداعي، وحتى تتراكم نوعًا وكميّة، وسنجد أولى طلائعها، في الصفحات الإبداعية العربية، ما تحت الثلاثين عامًا، وهي الشريحة التي ساهمت حناجرها في أول هتافات الحرية، في شوارع وميادين الربيع العربي: “الشعب يريد إسقاط النظام، يقصدون النظام السياسيّ العربيّ بِرُمَّتِهِ، ومن محيطٍ إلى خليج؛ فقد استنفذَ صلاحيّته، بل إنه تجاوزها إلى رثاثته.