لا أدري من الذي أطلق على المسرح لقب “أبو الفنون”، لم استسغ هذه التسمية يومًا، ولا أعرف ما السبب. ربما ﻷنني أرى الخشبة، أو الساحة، أو المنصة، هي المسرح، وكلها أسماء ليست مذكرة، بل مؤنثة، تدل على المكان، وتصلح أن تكون أمًّا وليس أبًا، وربما ﻷنه لا توجد -أصلًا- مهنة محددة، أو فن مستقل، اسمه المسرح؛ فالمسرح فنون كثيرة، بعضها سبق مفهوم المسرح بمئات السنين. وربما ﻷنني أربأ -بهذه الفنون- أن يكون لها أب واحد، ثم إن المسرح جاء ثمرة لهذه الفنون مجتمعة، وليس شجرة لها؛ ففن الشعر “الكتابة”، والطقوس الدينية، والإنشاد، تصلح أن تكون الأساس الحقيقي للمسرح، وكذلك الرسم والرقص والموسيقى. أما فن التمثيل، فهو جد الجميع، بلا منازع؛ ﻷنه فطرة، وُلدت مع ولادة البشر، وتطورت معهم؛ فهو تقليد ولعب وإشارة وإيماءة وهمهمة، استخدمها الإنسان/ الطفل، قبل اللغة والعقل، وقبل الحضارة والفن. الأطفال الصغار يراقبون، ويقلدون الكبار، ويتعرفون الأشياء من خلال تجريبها، والطفل يلعب مع أقرانه “عريس وعروس، و بيت وبيت”، ويصوب سبابته، ويطلق النار من شفتيه، ويحول علبة الكبريت إلى سيارة، والمسطرة الخشبية إلى سيف، والمكنسة إلى حصان. ألا يتخيل الطفل كل ذلك، ويصدقه، ويؤمن به، ويتقن تمثيله بشكل عجيب؟ وما فن التمثيل إن لم يكن مراقبة، وتجريب، وإيمان، وتقليد، وصدق؟ أليست هذه هي العناصر الأساسية التي يقوم عليها فن التمثيل؟ ألا يحنّ كل ممثل إلى تلك الفطرة، ويتمنى أن يمتلكها من جديد؟ فهل كان هذا اللقب “أبو الفنون” مجازًا، أم تكريمًا للمسرح؟ وهل يوجد مسرح -أصلًا- بمعزل عن فن التمثيل؟ لكن اﻷهم من هذا وذاك، أن المسرح جاء تتويجًا لهذه الفنون مجتمعة، وهو ما جمعها، وحضنها، وشذّبها، وآلف بينها؛ لتصبح فنًا جديدًا.
وإذا كان المسرح يدل على المكان: الساحة، أو الخشبة، أو المنصة، أو الدّكة، أو الركح عمومًا؛ فالتمثيل يدل على الإنسان، الشخص الممثل، والمكان بهذا المعنى، وُجد قبل الفن، لكنه لم يكن له أي معنى، حتى استخدمة اﻹنسان وسيلة للتعبير الفني والحوار؛ فما إن انفصل المنشد عن الجوقة، وراح يحاورها، حتى نشأ فن التمثيل، وتحول عمله إلى مهنة مستقلة، أو فن جديد. ولا ندري إن كان الفضل -في ذلك- يعود إلى اليوناني “ثيسبيس”، الممثل الأول والمؤسس، الذي كان ينشد هذه الأغاني المنفردة بنفسه، وهو يرقص، ثم أكمل “اسخيلوس” ما بدأه سلفه؛ فأدخل الممثل الثاني، وجاء “سوفكليس”؛ فجعلهم ثلاثة، وهذا ما أتاح لفن التمثيل أن يصبح مهنة، ويتطور، ثم يصبح فنًا مستقلًا بذاته.
والمسرح -عمليًا- ليس مكانًا فحسب، وإنما هو مكان، وممثل، ومشاهد (جمهور). إن هذه الركائز الثلاث مجتمعة، هي الأساس الذي لا يمكن لهذا الفن أن يقوم بمعزل عنها، وفن التمثيل -عمليًا- هو ما جذب بقية الفنون وتفاعل معها، عبر العصور؛ ليشكل ما نطلق عليه اليوم العرض المسرحي: أقنعة، ملابس، موسيقى، غناء، ديكور، وغيرها من عناصر العرض المسرحي، ومتطلباته الحديثة، كاﻹضاءة، والمؤثرات الصوتية، والسينوغرافيا عمومًا.
وليست الوظيفة المعرفية، أو الجمالية، أو التربوية، أهم وظائف المسرح، كما يظن بعضهم، بل ثمة وظيفة أخرى تتربع على عرشه، وهي الحوار، أو خلق مناخ راقٍ، ومواضيع مهمة للنقاش والدرس والمراجعة؛ فالعرض الذي لا يثير حوارًا عرض أبكم، والحوار الذي لا يجد مكانًا، وأشخاصًا ملائمين، حوار أصم. ولا شكّ -عندي البتة- في أن العقل البشري خلق فن المسرح؛ لتحقيق هذه الغاية النبيلة (الحوار).
والحوار -بطبعه- لا ينشأ إلاّ بين العقلاء، ولا يكتمل من دون قطبيه الأساسين: المرسل (المبدع أو العرض)، والمستقبِل (الجمهور). إن الخشبة المعتمة، والصالة الفارغة، لا معنى لوجودهما بلا ناس، ولا معنى لوجود الناس بلا حوار. والحوار يبدأ -عمليًا- مع بداية العرض، لكنه لا ينتهي بانتهائه، كما يظن بعضهم. إنه يتسلل -كالشبح- عبر باب المسرح العريض؛ لينتشر في أزقة المدينة وحواريها وبيوتها ومقاهيها، وإذا لم يتردد صداه في المدينة؛ فسوف يموت فوق الخشبة، كما يموت الصوت في الخواء.
إنه مكان فريد، ومناسبة رائعة؛ لتبادل الرأي، وفرصة مدهشة؛ للتأمل والنقاش المباشر الراقي، بين الخشبة والصالة، لكنه ليس نقاشًا بين مرسل ومتلق فحسب، أو بين أستاذ وتلميذ، أو حاكم ومحكوم، كما يحدث في البلدان التي تؤمم المسرح، وتهيمن على القيم الروحية للشعب؛ فهذا المكان (خشبة المسرح) لا يصلح لأن يكون منبرًا؛ لإلقاء الشعارات والمحاضرات السياسية والتربوية، أو المناظرات الفكرية، أو الخطب العصماء المكررة، أو الجدل العقيم. من حق الأنشطة السياسية والعقائدية أن تكون موجودة، وأن تكون لها وظائف خاصة بها، وأماكن مخصصة لها، لكن بعيدًا عن خشبة المسرح، التي اخترعتها البشرية، عبر مسارها الحضاري؛ لتكون حلبة للحوار الفكري والجمالي الحر والمتحرر، بين قطبين ركنين، وليس للإملاء والتلقين وسيادة الصوت الأقوى. إنها حلبة، لكن ليست للصراع بين ديكين، وإنما للتناغم بين آلتين موسيقيتين، بين عقلين وقلبين عاشقين للمعرفة والجمال، يحكمهما التواطؤ اللذيذ بينهما، لذة اللعب، وحرية الرأي، والتحليق بالخيال والذوق الرفيع، والاحترام المتبادل للعقل والمنطق، وسحر الثقافة، ونور العلم، وتوهج العواطف الإنسانية.
تعليق واحد