قضايا المجتمع

السلفية الجديدة: مدارس مختلفة ومتخالفة

قُبيل حرب الخليج الثانية عام 1990، وبمجيء القوات الأميركية إلى منطقة الخليج؛ دبّ خلاف حقيقي بين دعاة السلفية الجديدة الشباب، ومشايخهم الكبار، تمركز حول شرعية وجود القوات الأميركية في بلادهم؛ وموقفهم من الحكام المرحبين بذلك؛ فصب هذا الخلاف في مصلحة السلفية الجهادية؛ لتغدو أكثر جماهيرية؛ وبالتالي، أصبحت نظرية الضلع الثالث (جهاد الطلب) ذات مصداقية، ولها أنصارها في الشارع العربي عمومًا، ربما ليس إيمانًا بها، ولكنه نكاية بالسلوك الأميركي في المنطقة، وتعاطفًا مع الحالة العراقية.

 

الإدارة الأميركية آنذاك، كانت في أوج انتصاراتها وعجرفتها، وبدأ مفكروها، ومراكز أبحاثها، تتحدث -بعد انهيار الاتحاد السوفياتي- عن مواجهة مقبلة مع الأصولية الإسلامية؛ فأسست في خطابها لثقافة “الإسلاموفوبيا”، وجاء كتاب ريتشارد نيكسون، الرئيس الأميركي الأسبق، “نصر بلا حرب”؛ ليتحدث عن مرحلة جديدة، يدخلها العالم بعد عام 1990، يكون قد تخلص فيها من الاتحاد السوفياتي؛ ولكي يفرض نمطه الجديد، الذي نظّر له “فوكاياما” -لاحقًا- في كتابه “نهاية التاريخ”؛ فإن العقبة الأساسية -أمام ذلك- تتمثل بالأصولية الإسلامية، ولا بد من مواجهتها؛ ما عزز نظرية السلفية الجهادية القائلة بأن الحرب، الغربُ من بدأها، ونحن لها.

وقد وردت عبارة في الكتاب المذكور، تُرجمت -سلبيًا- على النحو التالي: سننتهي من المارد الأحمر(الشيوعية)، ونتفرغ للمارد الأخضر (الإسلام) الذي أخذ خطه البياني -آنذاك- في تصاعد كبير عالميًا. إنْ من خلال الصحوة الإسلامية السنية؛ أو من خلال انتصار الثورة الإيرانية شيعية المذهب.

 

هنا وجد الشيخ ربيع هادي المدخلي الحل، بتبني السلفية العلمية، التي تُسمى عند خصومها بـ “المدخلية” أو “الجامية”، نسبة لمحمد أمان الجامي، الأثيوبي الأصل، وهو المؤسس الحقيقي لهذا التيار، وتُسمى -أيضًا- “حزب الولاة”، وتدعو إلى حرمة الخروج على ولي الأمر، أو التحريض عليه، أو مجالسة، أو الاستماع، لمن يدعو إلى ذلك.

 

هناك تفسيران لظهور السلفية المدخلية (العلمية):

الأول:

بهذه الرؤية للسلفية العلمية، يتم تجنيب الدعوة السلفية، المعلِنة عداوتها لإسرائيل وأميركا والغرب، وتنادي بجهاد الطلب، ضربةً من قبل الغرب وأميركا، قد تودي بها، خصوصًا أن الإدارة الأميركية، كانت قد تخلت عن الجهاديين السلفيين، بعد أن حققوا لها غرضها في أفغانستان بهزيمة الاتحاد السوفياتي؟ وأن الضربة الأميركية لهم، ستترك الساحة الإسلامية الدعوية شاغرة للأشاعرة والشيعة؛ فلا بد من إنقاذ ما يمكن إنقاذه.

 

الثاني:

وجدت السلفية المدخلية أن الخطاب السلفي بدأ ينحو باتجاه، سيؤدي -حتمًا- إلى صدام مع أولياء الأمور، خصوصًا في المملكة العربية السعودية؛ وهذا سيضر بالدعوة السلفية كثيرًا، وربما سيقضي عليها، خصوصًا أن الدولة في السعودية، هي من تتبنى الدعوة وتنفق عليها؛ فأُعلن -بُعيد حرب الخليج الثانية- عن تأسيس السلفية العلمية، التي أخذ أنصارها يلقبون الشيخ المدخلي، بإمام أهل السنة والجماعة، وفي أيديولوجيتها ترفض -نهائيًا- الضلع الثالث الذي تطالب به السلفية الجهادية، كما ترفض التحريض المبطن على ولاة الأمر، الذي بدا واضحًا في خطاب دعاة السلفية الجديدة، في أثناء، وبعد حرب الخليج الثانية.

 

أكد منظرها الشيخ المدخلي أن الحاكم متى ما حقق الضلعين الأوليين، اللذين قالت بهما السلفية الجديدة؛ أصبح حاكمًا شرعيًا، لا يجوز الخروج عليه، كما أن الجهاد لا يكون إلا لضرورة، كدفع الصائل، وما شابهه فحسب، وبإذن ولي الأمر تحديدًا، وتحت رايته. وأن الخروج على الحاكم، يمثل فتنة كبيرة، لها تداعيات خطرة على المجتمع، وعلى الدعوة إلى الله، هذا من جانب؛ ومن جانب آخر، فإن حكام الخليج يحتضنون الدعوة ويدعمونها؛ وبالتالي، فإن مخاصمتهم سيفقدها دعم الدولة المهم جدًا؛ فأصدر فتواه القائلة: بأنه لا يجوز مجالسة السلفيين الجهاديين، فهم خوارج؛ لخروجهم عن طاعة ولي الأمر! ولا الاستماع إليهم، ويجب محاربة فكرهم الضار بالدعوة إلى الله.

 

توحش عصر الذبح؟

بدأت السلفية الجهادية عملها في تلك البلدان، من خلال إطلاقها فتاوى تكفّر الحكامَ، والعلماءَ وأتباعهم؛ فبدأ عصر الذبح يتوحش أكثر، من خلال عمليات التفجير، والاغتيال، والقتل، داخل البلدان العربية خاصة، وبلغت ذروتها في مصر، منتصف التسعينيات، من خلال اغتيال مسؤولين مصريين، ومفكرين علمانيين، كفرج فودة، وقتل السياح الأجانب فيها، ودخلت في معارك شديدة مع أجهزة الأمن، ومراكز الشرطة، قامت بها الجماعة الإسلامية المصرية، التي نشأت في مصر، ودعت إلى الجهاد؛ لإقامة دولة الخلافة، وتحكيم شرع الله، وكان أميرها الشيخ عمر عبد الرحمن، الذي يقضي الآن عقوبة السجن المؤبد في الولايات المتحدة الأميركية، ومن أبرز رموزها عبود الزمر، وكرم زهدي، وطارق الزمر، وهي التي اغتالت الرئيس أنور السادات، عام1981، في بداية عصر الذبح بالحادثة المشهورة.

 

ووقعت تفجيرات مرعبة، طالت دول الخليج العربي، أشهرها تفجير الخبر في السعودية، في 25 تموز/ يوليو 1996، حيث استُهدف مجمع سكني، يأوي جنودًا أجانب، بالقرب من شركة النفط الوطنية (آرامكو) في الظهران، وذلك بشاحنة مفخخة، ثم تفجير مجمع المحيا 2003، حيث قام أفراد من جماعة تنظيم القاعدة بمهاجمة مجمع المحيا السكني، الذي يقطنه الآلاف من الجاليات الأميركية والأوروبية والعربية، غربي العاصمة الرياض، بسيارة مفخخة، كانت حصيلة ذلك الهجوم 18 قتيلًا و122جريحًا، وباتت عمليات التفجير تأخذ طابعًا وحشيًا، لم تألفه المجتمعات من قبل، وغالبًا ما كان تنظيم القاعدة، يعلن مسؤوليته عن تلك التفجيرات.

 

ساهم الاحتلال الأميركي للعراق؛ والدور الإيراني في ذلك الاحتلال؛ كما صرح بذلك علي أبطحي نائب الرئيس الإيراني الأسبق، محمد خاتمي، إضافة إلى الدور الذي قام به زعماء المعارضة العراقية، الموالون لإيران، وما جرى -إثر سقوط بغداد- من عمليات تنكيل، من قبل جماعات شيعية المذهب، إيرانية الولاء، ضد أفراد وكيانات ومجموعات سنية محسوبة على نظام صدام، أخذت طابعًا ثأريًا طائفيًا؛ وتم تصوير الأمر إعلاميًا على أنه انتقام، يقوم به الشيعة ضد السنة، وفي ذلك كثير من الصحة؛ إضافة إلى حالات الاغتصاب والتهجير والانتقام.

 

أثناء وجودي في الرقة نازحًا إليها من الحسكة، بعد مطاردة النظام لي هناك، التقيتُ بأبي فهد العراقي، أحد القادة العسكريين لداعش، قبل استيلائها على الرقة، ودار بيننا حوار حول أمور كثيرة، منها الذبح الوحشي الذي تقوم به داعش، فسألتُه: لِمَ كل هذه القسوة مع خصومكم؟ أجابني: لوكنتَ مكاني، لفعلت أكثر مما نفعل! فاستغربت جوابه! فتابع، قائلًا: أنا عن نفسي سأذبح أكثر! لقد اغتصبت الميلشيات الشيعية -أمام عيني- زوجتي وابنتي وأمي! ولكن الأكثر حزنًا لي، أنهم اغتصبوا كذلك والدي أمامي! ثم قتلوهم جميعًا وتركوني، وأفصح لي أبو فهد العراقي أنه كان ضابطًا في الحرس الجمهوري العراقي برتبة رائد. طبعًا ذلك ليس مبررًا للذبح الوحشي الذي تقوم به داعش؛ لكنه يعطينا تصورًا كيف كان يُؤسس لتجذير ثقافة الذبح في العقل؛ بطريقة ممنهجة؛ تجعل سلوك الذبح مبررًا عند من يقوم به؛ وكردة فعل وحشية على فعل وحشي.

 

ولكن: ما دور السلفية الجهادية في الربيع العربي؟ ودورها التخريبي في الثورة السورية؟ وما الواجب على أمراء الإسلام السياسي أن يقوموا به؟

مقالات ذات صلة

إغلاق