سورية الآن

تركيا العسكر والشعب والليلة الطويلة

ليلة 15 تموز/ يوليو 2016، تاريخٌ -ربّما- لن ينساه الأتراك، لأعوامٍ عديدةٍ قادمة، فبين كلمة عاجل على محطات التلفزة، تُعلن عن محاولة انقلاب عسكري، وبين ظهور الرئيس، رجب طيب أردوغان، عبر هاتف نقال، يخاطب الشعب، بدا أن العسكر قد أصبحوا في مواجهة الدولة، ثم الشعب في وجه العسكر؛ لتصبح الدولة في حالة انتظار، وهي التي بات يُنظر إليها، في السنوات الأخيرة، كدولة مستقرّة ومؤثرة، في منطقة قلقة، تتجاذبها نزاعات داخلية وصراعات دولية، وخاصّة أنها تفاوض؛ للدخول إلى الاتحاد الأوروبي.

 

إنها لحظاتٌ، وضعت الجميع أمام أسئلةٍ جديدة، تتضمن مفرداتها المدفع والدبابة والطائرة، وما إلى ذلك، واعتقد بعضهم أنها دخلت نفقًا مجهولًا؛ إذ لم يتوقع كثيرون أن هذه الدولة، وبعد حيوية الحياة السياسية فيها، والتي بدت واضحةً في الانتخابات النيابية الأخيرة، في تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2015، وفوز حزب العدالة والتنمية بأغلبية نيابية بسيطة، حيث كانت -أساسًا- جولة إعادة لانتخابات سابقة، تمت في حزيران/ يونيو من العام نفسه، ولم يستطع فيها أي حزب تشكيل حكومة، منفردًا، لعدم الحصول على أغلبية برلمانية.

فكيف سارت الأمور في تلك الليلة، من منتصف تموز/ يوليو، في هذا البلد الكبير؟

 

سيناريو الانقلاب ومواجهته

الساعة العاشرة ليلًا، بتوقيت أنقرة، كانت نقطة الصفر، وأخذت طائرات الانقلاب تجوب أجواء المدن الكبيرة، أنقرة وإسطنبول، بالتزامن مع انطلاق الدبّابات والمدرعّات نحو الأماكن الحسّاسة، وبدأت بقطع الطرقات، وتوزّعت فرقٌ متعدّدةٌ، لكلّ واحدةٍ منها مهامّها، إحداها اقتحمت التلفزيون الرسمي في إسطنبول؛ لقراءة بيان الانقلاب الذي أوقف العمل بالدستور، ومنع التجوال؛ ليضع الجميع أمام حقائق جديدة، بطريقة الصدمة، الغاية منها شل حركة الجسد التركي، وفي الوقت الذي تمت فيه السيطرة على مبنى قيادة الأركان، قصف الطيران القصر الرئاسي، ومبنى البرلمان، وكذلك مبنى المخابرات، وقيادة الشرطة في أنقرة، وقُصف الفندق الذي فيه الرئيس، رجب طيب أردوغان، في مرمريس على شاطئ المتوسط، ثم حوصر هذا الفندق، ولكن الرئيس كان قد غادره قبل دقائق.

 

دخلت، في هذه الأثناء، وسائل إعلامٍ عالميّة عديدة على الخط، كأحد العناصر المكمّلة للانقلاب، وبعضها ذهب بعيدًا، في الزعم أن أردوغان قد غادر البلاد، وبدأت تستضيف محللين، يبررون ويسوّقون لمرحلة جديدة، من الحياة السياسة في تركيا، أما على الأرض؛ فكانت المواجهة من نوع آخر، فإن بدا ليل تركيا -في تلك الساعات- طويلًا وثقيلًا، فقد ظهرت -أيضًا- عوامل معاكسة، بدت -في البداية- وكأنّها بسيطة، ولكنّها غيّرت معادلة كاملة؛ إذ ظهر أردوغان في الساعة الحادية عشر ليلًا، عبر تطبيق “فيس تايم” على هاتف مذيعة في محطة (CNN) التركية؛ ليطلب من الأتراك النزول إلى الشارع، فاستجابت الناس، وبأعداد كبيرة، واتجهت إلى مراكز المدن، وإلى الأماكن الحسّاسة، ومنها مطار أتاتورك الدولي في إسطنبول، في الوقت الذي كانت فيه المحطات التركيّة غير الرسميّة، وهي بالعشرات، تسلّط الضوء على الشارع، ومواجهة المدنيين للمدرعات والعسكر بشجاعة، وكان ملفتًا كيف اتحدت المعارضة مع الحزب الحاكم، على الأرض، بوجه الانقلاب، وأخذت مآذن الجوامع تكبّر، وتحفّز الناس على التجمهر، بينما البلديات في بعض المناطق، شرعت بتسهيل حركة الناس؛ للتنقل والتجمع، وتعطيل حركة آليات الانقلاب.

 

إن هذا الإعلام، مع وسائل التواصل الاجتماعي، استطاعا أن يقلبا المعطيات؛ فأُعلن أنّ بيان الانقلاب مزورًا، وأنه تمردٌ قد فشل، قام به عددٌ بسيط من المتمرّدين لا يمثّلون الجيش، وتمّت السيطرة على الوضع، وهذا ما أشار له الرئيس أردوغان، وكذلك رئيس الحكومة، بن علي يلدرم، وبعض القادة، وكان واضحًا أن الجيش كان منقسمًا على نفسه، واستطاع موالو الحكومة اعتراض حركة عدة قطع عسكرية، وإيقافها، وقد أُسقطت عدّة طائرات مروحيّة، كانت تستهدف المرافق الحيويّة والناس في الشارع، كما قُطعت الكهرباء عن قاعدة إنجرليك، وأوقفت حركة الطيران منها.

 

لماذا تركيا؟

يُحسب، في هذا الوقت الحرج، للجماهير أنه لم يرهبها هدير الطائرات، وأنها مضت -بشجاعة- إلى الميادين، ووقفت في وجه الدبابات، ومع بداية الفجر، استعاد الناس، بالمشاركة مع قوى الأمن الداخلي والمخابرات، السيطرة على مرافق مهمة عديدة، واتضح أنّ الانقلاب قد تم إفشاله، وانطلقت حملة اعتقالات واسعة، طالت مستويات عدة، في القوى العسكرية، الجويّة والبريّة والبحريّة، وأيضًا في جهاز القضاء، واتجهت كل الاتهامات إلى الداعية فتح الله كولن، المقيم في الولايات المتحدة الأميركية، وجماعته، بالوقوف خلف الانقلاب.

 

يُشار -أيضًا- إلى أن قيادات الأحزاب الرئيسة المعارضة، ومنها: حزب الشعب الجمهوري، وهو من أكبر الأحزاب المعارضة، كانت قد وجّهت رسائل، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إلى جمهورها، تنبّه فيها إلى أن الحكم العسكري الذي جرّبته تركيا غير مقبول، كما كان لموقف رئيس الحكومة السابق، أحمد داوود أوغلو، وعبد الله غل، الرئيس التركي السابق، دورًا في توجيه الرسائل الإيجابية إلى الناس.

 

إن الصمت الدولي عمّا جرى خلال الساعات الأولى، والذي وازته سيطرة الشعب على الشارع والمرافق العامة؛ يعطينا مؤشرات مهمة، أبرزها: أن ما جرى في تركيا خلال العقد الأخير من الزمن، منذ أن ترأس أردوغان الحكومات التركية، عن حزب العدالة والتنمية، وترافق معها تغييرات جذرية في السياسة التركية الداخلية والخارجية، ومنها محاولة المصالحة مع حزب العمال الكردستاني، والعمل على إنهاء الصراع، ودعوته لدخول معترك العمل السياسي، كذلك انفتاح الحكومة التركية نحو أوروبا، وتغيير قوانين عديدة، واهتمامها بالتعليم بمراحله كافة، وخاصّة البحث العلمي، وكذلك القطاع الصحّي والخدمي، كما شهدت نموًا اقتصاديًا ملفتًا، انعكس على حياة المواطن التركي؛ أعطى لهم (موالين ومعارضين) إحساسًا بقسمة أنجزته الحياة المدنية لهم، خلال تلك السنوات؛ فسارعوا إلى حمايتها بكل ثقة، وكانت هذه هي المفارقة الأهم أمام العسكر؛ فإذا كانت الانقلابات العسكرية السابقة، التي شهدتها تركيا تحت عنوان: العسكر حماة الديموقراطية والعلمانية التركية، وكان هذا فحوى بيان الانقلاب الأخير، الانقلاب الذي اعتمد على وسائل تجاوزها الزمن، بينما ذهب أردوغان نحو الشارع مباشرةً؛ فلبّته الناس في الوقت الملائم.

 

إن المتابع لرؤية الغرب إلى منطقة الشرق الوسط، خلال العقود الماضية، يدرك بأنه يميل إلى دول ضعيفة وهشّة من الداخل، ولا تملك قرار نفسها، تحت حكم استبدادي، في دولة عميقة، لا تأبه بالحياة المدنية، كي تستطيع توجيهها بما يضمن مصالحها، إلاّ أن تركيا استطاعت -خلال السنوات الماضية- أن “تمتلك” قرارها، وتضع شروطها الإقليمية، وتصبح من العشرين الكبار اقتصاديًا، وهذا يكمن -ربما- خلف ما تم ترتيبه لهذا البلد، من خلال التخلّص من هذه المرحلة، عبر اغتيال، أو اعتقال أردوغان، وإدخال تركيا في المجهول، لكن إرادة الشعوب -على ما يبدو- عندما تتحرر، وتمتلك قرارها المدني أولًا، قد تصنع الكثير.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق