لطالما نٌشرت كتب تتناول تاريخ سورية الحديث، سلّطت الضوء على الوضع السياسي والاجتماعي والطبقي، في الدولة، وفي المجتمع السوري، وانتقدت مراحل من تاريخ سورية السياسي، لكن القاسم المشترك، بين الغالبية العظمى لهذه الكتب، أنها توقفت عند مرحلة استلام حافظ الأسد للسلطة في سورية، ولم يتجرأ مؤلفوها على تناول مرحلة الأسدين، الأب والابن، خوفاً من سلطة شمولية تترقب أخطاءً من هذا النوع، لتفتك بأعدائها من الباحثين والكتاب والمثقفين.
من هنا تأتي أهمية كتاب (تطور المجتمع السوري: 1831 ـ 2011)، الذي لا يقع ضمن خانة هذه الكتب، بل شذّ عنها؛ حيث تجرأ مؤلفه (نشوان الأتاسي) على فتح صفحات سورية، بدءاً من بدايات القرن التاسع عشر، إلى مرحلة حكم حزب البعث، وسيطرة الأسدين الأب والابن على مقاليد السلطة، وتحويلهما الدولة السورية، إلى دولة أمنية عميقة، يحكمها العسكر، ويهيمن عليها الفساد، وتنخرها الولاءات الطائفية، وأمراض المجتمع الفتاكة.
يعرض الأتاسي في كتابه الواقع في 375 صفحة، أهم الأحداث التي شهدتها سورية منذ عام 1981، زمن انهيار الدولة العثمانية، وبدء تشكّل الثورة العربية الكبرى وانطلاقها، والانتداب الفرنسي على سورية، وتأسيس نواة النضال الوطني ضدّ المستعمر، وصولاً إلى الجلاء والاستقلال، وذلك في عرض لأهم الأحداث الجزئية، التي رافقت هذه الأحداث المفصلية، في التاريخ السوري الحديث، وسلّط الضوء على أدوار أهم الشخصيات التي واكبت وعاصرت تلك الحقبة، وعلى أدائها في تلك الفترة، ثمّ شخّص التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وقاطعها مع الأحداث التاريخية، ومع علم الاجتماع السياسي، كما عرض للنضالات العسكرية، وللاتفاقيات الدولية، بما فيها الوحدة مع مصر، وعرّج على الاصطفافات والخلافات والتحالفات، بين العسكر والأحزاب والزعامات المحلية، التي أدت إلى هيمنة حزب البعث على المجتمع والدولة والسلطة.
انتقل المؤلف في أبواب لاحقة من الكتاب، ليعرض لحقبة مريرة من تاريخ سورية المعاصر، تبدأ بسيطرة حزب البعث على الدولة، واستلام حافظ الأسد للسلطة، وحرفه بوصلة الحكم، وقطيعته مع الشعب، وتغليبه المصالح الأسرية والطائفية على الوطنية منها، ونشره الفساد ورعايته له، وتبنّيه لسياسات قمعية فاسدة، ذات صبغة انتقامية طائفية إذلالية، لينجح في تشويه العلاقة بين مكونات المجتمع السوري، وبين أهالي المدينة والريف، ويبث الخلافات المذهبية والطائفية، والنعرات المناطقية.
قدّم للكتاب الباحث اللبناني زياد ماجد، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأمريكية في باريس، نصير الثورة السورية البارز، وقال عن الكتاب إنّه “يوجز دون تبسيط تاريخاً خطيراً، ويوفر لطلاب العلوم السياسية ودراسات الشرق الأوسط المعاصر، نصاً يضاف إلى النصوص المختصة بالمنطقة، مع وجود فارقين؛ أوّلهما مرتبط بكمّ المعلومات المعروضة بسلاسة، وغنى الإحالات إلى مراجع وأعمال تؤمّن زاداً بحثياً ومعرفياً غنياً ومتنوعاً، وثانيهما يستند إلى تجربة الكاتب”، ورأى أن الكاتب “خرق الحظر المسدل على رواية الأحداث منذ 1970 من خارج سير النظام الرسمية”، و”يعيد الاعتبار إلى مراحل من التاريخ، سعى النظام بعد تسيّد البعث، إلى طمسها، والتقليل من شأن أحداثها ومدلولاتها”.
لا يجانب المؤلف الحقيقة، حين يتحدث عن مرحلة حزب البعث في سبعينات القرن الماضي، تلك المرحلة التي يؤكد أنها مرحلة تبدلات في القيادات، وفي الهويات المناطقية والطائفية للضباط البعثيين، ومرحلة خلخلة للنظام الاجتماعي، لصالح هيمنة طائفة ومن ثم أسرة واحدة على الحكم، تحت غطاء البعث، هي أسرة الأسد، التي تجنّب كثيرون الخوض في عمقها، لما يمكن أن يحمله هذا التعرض من ويلات، لا تطالهم وحدهم، بل تطال أسرهم أصدقاءهم وجيرانهم، في نظام اعتاد معاقبة الأقارب والمعارف، للضغط على الأصل؛ للاستسلام.
يستعرض الكتاب مرحلة حكم حافظ الأسد، وعلاقته بتأجيج الحرب الأهلية اللبنانية، وبإيران، والاتحاد السوفياتي ومن بعده روسيا، وتطييفه الجيش والأمن، وتعامله مع سورية كمزرعة خاصة، وفسحه المجال لهمجية الاستخبارات، لتذلّ السوريين، وتحرمهم كرامتهم، مروراً بصراعه مع أشقائه على السلطة، وتأهيله لأولاده لوراثة الحكم، ثم ينقل إلى وراثة بشار الأسد للسلطة، عقب موت الأسد الأب، وما قام به من تغييرات، زادت من سوء الأوضاع في سورية، تغييرات أدى تفاقمها إلى انفجار برميل النفط في وجهه، ووجه سلطاته، وأجهزته الأمنية، وأسرته.
يستعرض الكاتب نمو الفساد واستشرائه في دولة الأسد الأب (والابن لاحقًا)، ويؤكد على أنه لم يكن ظاهرة متفشية على هامش تركيبة النظام، بل في صلب تكوينه، وسبباً جوهرياً لبقائه واستمراره، ويشير في هذا الخصوص إلى ظهور طبقة برجوازية جديدة، من أغنياء نهب المال العام، والصفقات المشبوهة، والاتجار بالممنوعات، ما أدى إلى اتّساع الهوة بين الأغنياء الفقراء، وانهيار قطاع التعليم الأساسي والعالي، والصحة والثقافة والإعلام.
كما يتعرض لـ (الجبهة الوطنية التقدمية) التي أسسها الأسد، لتزيين حكمه بتعددية زائفة، وللدستور الذي منحه صلاحيات تنفيذية، وتشريعية، وقضائية هائلة، وكيف جعل الأجهزة الأمنية، والحرس الجمهوري، والوحدات الخاصة، وسرايا الدفاع، وغيرها، لحماية كرسيه، ولإنهائه عصر القضاء المستقل، وحرية التعبير، والعلاقة المتوازنة بين الفرد والدولة.
يتطرق الكاتب -أيضاً- لعلاقة الأسد الأب، بالتنظيمات الفلسطينية، واستغلاله شعارات الصمود والتصدي، والتوازن مع إسرائيل، لتثبيت شرعيته، كما يتطرق لمفاوضات السلام مع إسرائيل، وموقف النظام السوري من اجتياح العراق للكويت، وقراره المشاركة في حرب الخليج، والعلاقة السورية- التركية التي تحسّنت زمن الأسد الابن -المتسرّع- ثم ما لبثت أن انهارت، لأنها لم تستند إلى أي أسس صحيحة وصحّية.
وتصل فصول الكتاب الصادر عن أطلس للنشر والترجمة في بيروت إلى ما بعد استلام الأسد الابن السلطة، ومحاولته خداع السوريين بديمقراطية زائفة، سرعان ما يتراجع عنها، ليعتقل رموز منتديات المجتمع المدني، ولتحوم حوله الشبهات في عملية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق، رفيق الحريري، والتي أدت إلى إرغامه على إخراج جيشه من لبنان، وإطاحته بالرعيل الأول من أركان حكم أبيه، واعتماده على شريحة جديدة، أكثر فساداً وطائفية وإجراماً و(ولدنة سياسية).
كما يتطرق إلى بدايات الثورة الشعبية، وتشكّيل تنسيقيات الثورة، وتياراتها السياسية المختلفة، وصولاً إلى شرح أسباب عسكرتها، والحل العسكري، فالحربي، الذي اتّبعه النظام للقضاء عليها، الحلّ الإجرامي الذي دمّر ماضي سورية وحاضرها ومستقبلها.