قضايا المجتمع

الرقة.. من مدينة منسية إلى عاصمة الخلافة

أصبحت مدينة الرقة، الواقعة شمال وسط سورية من أكثر المدن تداولًا في الإعلام، والتي تبعد عن دمشق 500 كيلومتر، وعن مدينة حلب 200 كيلو متر، بعد أن كانت منسية لعقود، حيث لم تحظ بأي اهتمام خدمي أو تنموي، على الرغم من أهميتها الزراعية والمائية والنفطية لسورية ، وموقعها المميز؛ حيث كانت الرقة عاصمة الاصطياف للخليفة العباسي هارون الرشيد؛ لذلك سُميت عاصمة الرشيد، وتُعدّ من أكثر المحطات التجارية، وأكبر مراكز المحاصيل وتبادل البضائع؛ نتيجة لموقعها المميز، ووفرة المياه، واستمر ازدهارها  إلى أن دمرها هولاكو عام  1258.

في سبعينيات القرن الماضي بُني سد الفرات، الذي شكل نقلة نوعية لأهالي المدينة من الناحية الزراعية والثروة المائية، ففي 8 آذار/ مارس 1978، تم تدشين السد الذي يعدّ من أهم السدود المقامة في المنطقة العربية؛ فالأرض الخصبة الممتدة حوله، والمياه الوفيرة، خلقت بيئة زراعية رابحة بكل المقاييس، علاوة على توليد الكهرباء لتغطية احتياجات سورية عامة، بالإضافة الى بحيرة السد، والتي تعدّ من أكبر البحيرات الصناعية في العالم، طولها 80 كم، ومتوسط عرضها 8 كم، وطول محيطها 200 كم، وتُقدّر طاقة تخزينها للمياه بـ 14 مليار متر مكعب.

غضب الأسد على الرقة

في بداية ثمانينيات القرن الماضي غضب حافظ الاسد على الرقة، كنهج متبع في إدارة المحافظات السورية آنذاك، كما يقول بعض المحللين: إن غضب الأسد على الرقة؛ لقدرة المحافظة على الاكتفاء الذاتي في متطلبات الحياة كافة، وبُعدها عن العاصمة؛ ما يصعّب السيطرة عليها إذا ثارت في يوم من الأيام، بالإضافة الى موقعها المميز من الجزيرة السورية، وحدودها القريبة من تركيا، التي شكلت سببًا إضافيا للعمل على تهميش المدينة، ومنذ ذلك الوقت أصبحت الرقة مدينة منسية، وعدّها الأسد الأب، ومن ورائه حزب البعث، بقرة حلوبًا، كما عمل الحزب على السيطرة على شيوخ العشائر في المنطقة؛ ليكونوا السند والداعم لحكمه، وبقي التهميش حتى وصول الأسد الابن الى الحكم، الذي اتبع سياسة والده.

لعب إعلام النظام دورًا كبيرًا في تهميش المحافظة، ورسم صورة ذهنية مفادها أن سكان الرقة مواطنون غير متعلمين، ويفتقرون الى الحضارة؛ ما خلق ردة فعل، بقيت دفينة لعقود لدى سكان المحافظة تجاه النظام، إلا أن هيمنة العقلية العشائرية خفّف من آثار ردّة الفعل، وبذلك استطاع النظام السوري، ممثلًا في حزب البعث، أن يسيطر على بعض زعماء العشائر في المدينة، ويسيطر بالتالي السيطرة المحافظة.

نقطة التحول

استمرت سيطرة البعث على المدينة حتى الوصول إلى نقطة التحول، وهي صلاة العيد، التي أداها بشار الأسد في المدينة في 6- 11- 2011، في أول زيارة له إلى المدينة المنسية، وآخر زيارة كذلك.

بدأت عملية المخاض؛ لدخول المحافظة ركب الثورة، بعد زيارة الأسد إليها حيث بدأ الحراك الثوري بخروج مظاهرات، ردًا على زيارته، كما شكّل الاختلاط بالنازحين القادمين إلى الرقة، من المحافظات السورية، كحلب وإدلب وحمص و دير الزور، عاملًا مؤثرًا، للالتحاق بالثورة، وإن كانت متأخرة، إلا أن أهل الرقة استطاعوا أن يحرروها بتاريخ 4-3-2013 من النظام،  وخلال ساعات قليلة تم إخلاء المدينة، من أي أثر للنظام وجماعاته، وكان مشهد تحطيم تمثال حافظ الأسد، تحت أقدام أبناء المدينة، بداية مرحلة جديدة للثورة السورية؛ حيث أعطى هذا المشهد دفعًا كبيرًا للثوار، في كافة المحافظات السورية؛ لتحقق الحرية من نظام، حاول بكافة الوسائل الممكنة السيطرة على خيرات المدينة، وعلى أهلها، وبذلك أصبحت الرقة أول مدينة تُحرّر بشكل كامل؛ لتسيطر عليها كتائب أحرار الشام وجبهة النصرة؛ لتعيش شهورًا من الفرح، تجلّت في تحويل المدينة، من قبل ناشطيها، إلى “أيقونة الثورة”، من خلال النشاط، والفعاليات التي كانت تقام فيها؛ لتكون أنموذجًا لسورية المستقبل.

إلا أن عهدًا جديدًا بدأ بالظهور، بعد أن دخل تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، وبدأ بملاحقة الناشطين المدنيين السلميين، والإعلاميين، الذين فضل القسم الأكبر منهم مغادرة المدينة، بعد أن تعرض زملاؤهم للتعذيب، والسجن، والاخفاء، علاوة على اتباع التنظيم سياسة التضييق على الأهالي؛ ليمهد في إدخال المدينة مرحلة جديدة، بهدف تحويلها إلى مقر رئيس لعملياته، وبذلك تحولت الرقة من مدينة منسية الى عاصمة الخلافة.

فرض السيطرة

منذ إعلان تنظيم  داعش محافظة الرقة عاصمة الخلافة أواخر آب/ أغسطس 2014 اختلفت الحياة كليًا داخل المدينة، فتحولت الرقة من أول محافظة محررة بالكامل من نظام الأسد، إلى أول محافظة يسيطر عليها تنظيم داعش، فتحولت الرقة من محررة الى رهينة، ومختطفة من قبل داعش، حيث بدأ التنظيم بتطبيق أحكامها تحت شعار ” الشريعة الإسلامية ” على المواطنين الرقاويين.

بدأت كرة اللهب تتدحرج، وتتسع، بدخول داعش الى المدينة، وفرض السيطرة عليها، ثم الاستيلاء على الفرقة 17، ومطار الطبقة، واللواء 93، لتكون بداية مأسوية لأهم مدينة في العالم عام 2016، من حيث كثرة المجازر والإعدامات، والقصف المتواصل من قبل طيران النظام، وقوى التحالف والطيران الروسي، علاوة على انتهاكات داعش، كان أكثرها تأثيرًا على أهالي المحافظة، هو قتل أبناء المدينة أمام أعين أهاليهم، دون أن يستطيعوا فعل شيء، مما اضطر الأهالي إلى هجر المدينة، تاركين منازلهم لعناصر التنظيم  الذين استولوا عليها.

انتهاكات داعش

تحولت منطقة دوار النعيم في الرقة، إلى ساحة عامة لتعليق الرؤوس، والتنكيل بها، جزاء لكل من يعارض أفكار داعش، في المجتمع الرقيّ، حيث شهد الدوار تعليق عشرات الرؤوس، على سياج هذا الدوار، فبعض الرؤوس يعود إلى عساكر من جيش النظام، كان قد اعتقلهم التنظيم، أثناء هجومه على مطار الطبقة، والفرقة 17، ورؤوس أخرى تعود إلى نشطاء، وعناصر من الجيش الحر، جرى الحكم عليهم بالقصاص، بتهمة التآمر على الدولة، أو خلايا نائمة تابعة للجيش الحر، ولا أحد يعلم ما هي حصيلة عدد المعتقلين، من أبناء الرقة لدى التنظيم، فهناك تعتيم كبير من قبل داعش، ولاسيما أن معظم المعتقلين من أبناء الرقة، ممن واكبوا الثورة السورية منذ بداياتها، وكان لهم دور فاعل في النشاط الثوري.

تحدث الكثير من النشطاء بأن الرقة، أصبحت جنة داعش، ولعنة على أهالي الرقة، لتتحول بعد ذلك الى المركز الرئيس لعملياتها، بسبب مساحتها الكبيرة، وموقعها الجغرافي الذي يجعلها بعيدة كل البعد عن الجبهات العسكرية، فأقرب الجبهات إلى المدينة هي جبهة عين العرب / كوباني.

بدأت داعش تنشر فكرها وتطبق أفكارها، فالقرارات التي تصدرها واجبة التنفيذ، وعلى الجميع الموافقة عليها، وإلّا تعرض المخالف للموت، خلال تنفيذ أحكام القصاص، بحق المخالفين أمام أهالي المدينة.

تجنيد الأطفال

بعد سلسلة من القرارات التعسفية، بدأت داعش بسياسة جديدة، تقضي بتجنيد الأطفال من أبناء العائلات الفقيرة، مستغلة الحاجة المادية الماسة لعوائلهم، كما فرضت داعش على مسيحي المدينة دفع الجزية، بعد إعلانها إعطاء الأمان لهم، أواخر الشهر الثاني من 2014، مقابل التزام أحكام دفع الجزية، علمًا ن داعش لم تترك أي كنيسة إلا وهدمتها، أو حولتها إلى مقر تابع لها.

حارب تنظيم داعش العلم والتعليم في المحافظة، حيث قام بإغلاق جميع المدارس، وحذف معظم المواد الدراسية، مثل الكيمياء والفيزياء والرياضيات، ووعد التنظيم الأهالي بالإعداد لمنهاج جديد، يوافق مبادئ التنظيم، ولم تقتصر محاربة التعليم بإغلاق المدارس، بل امتدت إلى مضايقة الطلاب الجامعيين، وطلاب المرحلتين الإعدادية والثانوية، بمنعهم من تقديم الامتحانات في محافظات أخرى، كما منعت الفتيات دون سن 30 سنة، من التوجه إلى الجامعات خارج المحافظة.

وبهذا، تحولت المدينة المنسية في زمن النظام السوري، إلى عاصمة الخلافة لتنظيم داعش من جهة، ومركز العالم بالنسبة إلى وسائل الإعلام والقوى السياسية والعسكرية، لكل من قوى التحالف، والطيران الروسي والنظام السوري من جهة ثانية، في محاولة من الجميع للقضاء على داعش كما يزعمون، وتحقيق نصر يدفع ثمنه كل من تبقى من أهالي الرقة.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق