مقالات الرأي

ثنائية النصرة والقاعدة.. اللامركزية الجهادية

في 29 حزيران/ يونيو 2014، اغتنم أبو بكر البغدادي الوضع الناشئ، والعطالة الحركية التي أصابت التنظيمات السلفية الجهادية، بإعلانه “الخلافة الإسلامية” وتولية نفسه منصب “خليفة المسلمين”، فكان خيار تنظيم القاعدة استئثار أبي محمد الجولاني على البغدادي، والذي مثل مشروعًا جديدًا للاستثمار في بلاد الشام، خاصة بعد أن فَطِنَ أيمن الظواهري -سريعًا- إلى أن البغدادي نسخة أكثر غلوًا من أبي مصعب الزرقاوي، وأنه سيتجاوز تنظيم القاعدة، بمعزل عن طريقة معالجة الأخيرة لإشكالية بيعة الجولاني التي ساهمت، وبشكل رئيس، في القطيعة بين تنظيم الدولة والقاعدة، لا سيما أنه أعلن دولته من دون استشارة أمراء القاعدة، فضلًا عن إدراك الظواهري أن تنظيم الدولة قد سحب جزءًا كبيرًا من البساط الجهادي، من تحت أقدام قاعدة الجهاد العالمي، خصوصًا بعد مبايعة عدة جماعات جهادية البغدادي في كل من اليمن، تونس، ليبيا، إفريقيا، واستقطاب عدد كبير من مهاجري أوربا.

 

ويظهر جليًا أنه فضلًا عن العلاقة البنيوية والتنظيمية التي تربط النصرة بالقاعدة؛ فقد تعززت علاقتهما الثنائية على أساس تبادل المنفعة والمصالح، ففي الوقت الذي احتاج فيه الجولاني إلى مظلة شرعية بديلة عن تنظيم الدولة، كان التنظيم الدولي بحاجة إلى قاعدة شعبية جديدة، بعد أن احتكرها البغدادي في إعلانه الخلافة.

 

اليوم، وبعد حضور النصرة الإشكالي في الثورة السورية، وتعاظم قوتها؛ اندفع عديد من أصدقائها إلى تشجيعها على رمي هذا الوزر، الذي حملته وحمّلته لغيرها ببيعتها للقاعدة، كما لاقى إعلان فك الارتباط على لسان أميرها، أبي محمد الجولاني، ترحيبًا من بعض القوى المحلية، ولكن دون حسبان الوجه الآخر لهذا الانفكاك، وذلك وفقًا لطبيعة وبنية النصرة كتنظيم، وقياسًا على الأحوال التي تمر بها الثورة السورية في الوقت الحالي؛ فكان لابد من تفكيك آثار حل تلك البيعة في هذه المرحلة، وارتداداتها على مختلف القوى المحلية، والتي يمكن إجمالها بالنقاط التالية:

 

تحول استراتيجي في بنى القاعدة

يفرض الواقع الجديد على تنظيم القاعدة، إعادة التفكير في تموضعه الدولي والإقليمي ويحتم عليه إعادة تعريف حدود مشروعه الأممي، فعلى ما يبدو أن تراجع الدعم الشعبي للمشاريع الأممية عامة، وانتقال مركز الجهاد العالمي من أفغانستان إلى المشرق العربي، ساهم في وصول التنظيم إلى هذه النتيجة. حيث تشير القراءة الأولية لتصريحات أمراء ومنظري القاعدة إلى توجه الأخيرة للانتقال من مشروع الجهاد العالمي، والتنظيمات العابرة للحدود، إلى مفهوم الجهاد المحلي داخل حدود المجتمعات (اللامركزية الجهادية)؛ فلقد استجلبت تجربتها الأممية كوارث على قاعدة الجهاد في أفغانستان، وأفرزت نشوزًا أكثر غلوًا، وخارجًا عن السيطرة تمامًا، في حين يمكّنها مفهوم الجهاد المحلي -اليوم- من تأسيس قاعدة شعبية لأفكارها، والحد من العزلة التي غالبًا ما كانت تقع ضحيةً لها، وضمن هذا التوجه تُعدّ جبهة النصرة تجربة جديدة لتنظيم القاعدة، والحامل الأساسي لقياس نجاعة هذه الاستراتيجية؛ لذلك ليس غريبًا حدوث حل بيعة النصرة من جانب القاعدة، أو أن تأتي بالتنسيق بين التنظيمين، خصوصًا، وأن أيمن الظواهري قد أكد، في وقت سابق، أن “السبيل الأول لنجاح أي تجربة جهادية هو التحام المجاهدين بالحاضنة الشعبية”، مستشهدًا بتجربة طالبان وتجربة الشام، في إشارة إلى جبهة النصرة.

 

وبناءً عليه، يمكن القول إن تحولات المشهد السوري، ومعطيات واقع القاعدة الحالي، أملت عليها إعادة النظر في بنيتها التنظيمية، وإعادة تعريف علاقتها مع فروعها، وجعلها أكثر مرونة وأكثر محليةً، بشكل يحسّن تموضعها، إلا أن هذه التحولات والمعطيات، لا تهيئ لعوامل فك البيعة من قبل النصرة منفردةً؛ فالقاعدة تمدّها بشرعية سياسية، تحميها من تسرب عناصرها باتجاه تنظيم الدولة، فضلًا عن وجود مقاتلين وقادة، ولاؤهم الأول للظواهري؛ وبالتالي، يستوجب إعلان حل البيعة قدرة النصرة على مقاومة عوامل الانحلال الذاتي، وذلك من خلال التنسيق بين التنظيمين، ومحاولة النصرة اكتساب شرعية محلية بديلة.

 

انسيابية الانضمام

استطاعت جبهة النصرة، في أثناء ارتباطها مع تنظيم القاعدة، استقطاب العديد من الشباب السوري، نتيجة أوضاع موضوعية وذاتية، على الرغم مما كان يُشكّله -هذا الارتباط- من ضغط محلي وإقليمي ودولي على الثورة السورية، وقد يؤدي حل البيعة -اليوم- إلى انسيابية انضمام العناصر من مختلف الفصائل إلى النصرة، بعد إزالة هامش الفرق بينها، وبين باقي التجمعات الإسلامية العسكرية. كما أنه يفتح الباب واسعًا أمام انضمام فصائل كاملة إلى النصرة، بوصفها مشروعًا إسلاميًّا محليًّا، كما يشجع تجارب الاندماج مع النصرة، ولقد أثبتت التجربة السابقة تعاظم احتمالية حدوث هذا السيناريو، في حال توفر المناخ المناسب، تمامًا كما حدث مع عدد من كتائب جبل الزاوية بعد قضاء النصرة على نفوذ جمال معروف، أضف إلى ذلك توفّر مجموعة من العوامل الذاتية التي تشجع الشباب المقاتل ضمن صفوف الفصائل الإسلامية، على الانضمام إليها، بمعزل عن إشكالية ارتباطها بالقاعدة، كانتمائها إلى مشروع سلفي جهادي، تتقاطع فيه -بدرجة كبيرة- مع عدد من الفصائل الإسلامية، وليس آخرًا لتفوق بنيتها التنظيمية على معظم قوى المعارضة المسلحة؛ لذلك فإن حل البيعة قد يمثل إزالة العقبة التي منعت كثيرين من الانضمام إليها؛ ما قد يأتي بنتيجة عكسية، وهي زيادة قوة النصرة.

 

تدجين فكر القاعدة محليًا

عند الحديث عن حل البيعة، فإن المستهدف به ليس كامل جبهة النصرة، وإنما التعويل -هنا- على تيار محدد وُصف بـ “الإصلاحي”، ممثلًا بـ “أبي ماريا القحطاني، ومظهر الويس، والجولاني حديثًا”، أكثر من التيار الملقب بالصقور، ممثلًا بـ “سامي العريدي”، في المقابل، فإن الاتكاء على هذا التيار يستوجب قدرًا كبيرًا من الحذر، خاصة وأنهم سوريون حاملون فكر القاعدة، مع العلم أن فك الارتباط لا يعني -سياسيًا- التبرؤ من فكر القاعدة، بقدر ما هو فعل إعلامي ذو أهداف تكتيكية، أي أن فك الارتباط عبر هذا التيار، قد يأتي في سياق تدجين القاعدة داخل المجتمع السوري، وتجذيرها في سياق اللامركزية الجهادية التي تسعى إليها القاعدة.

 

تعتمد أغلب الحركات والتنظيمات السلفية الجهادية على الاستدلال بموروث فكري مجتزأ، في التسويق لمشروعها السلطوي، في حين تستند -واقعيًا- إلى حالات الفراغ السياسي والديني؛ فغياب مشاريع إسلامية أو سياسية ناضجة للمعارضة، لا يزال يساهم -بشكل فعّال- في استمرار حالة الفراغ السياسي، ويسمح لأصحاب المشاريع الأخرى الانفراد بالساحة، ومصادرة المبادرة السياسية والدينية على الصعيد المحلي، مقابل ذلك، فإن ما تمتلكه جبهة النصرة من كمون، يجعلها -على المستوى المحلي- مرشحًا قويًا، لاستغلال هذه الفرصة من خلال تصدير نفسها، كمشروع إسلامي يُقاوم نظام الأسد وتنظيم الدولة معًا، خاصة في ظل عدم تلاقي المشاريع الوطنية البديلة حول منهج ورؤية موحدة؛ حيث أن أغلب القوى الإسلامية المسلحة على الأرض لم ترق بعد لمشروع وطني جامع، سواء حركة أحرار الشام، والتي لا تزال تعاني من خلافات تنظيمية وتجاذبات لتيارات مختلفة داخل الحركة، أو جيش الإسلام الذي يكاد يكون مشروعًا مناطقيًا، مقابل القوى السياسية، ممثلة بالائتلاف الوطني السوري، والذي لم يستطع بحكم بنيته، وأحوال المشهد السوري: الإقليمية والدولية، من جعل الحاضنة الثورية تلتف حول رؤية سياسية واضحة، وفي ظل حالة الفراغ هذه، فإن تقديم النصرة كفصيل سوري داخلي، لا يرتبط بالقاعدة، قد يؤدي إلى دعم تحويلها إلى مشروع بشكل أو بآخر.

 

لا يمكن إغفال دور جبهة النصرة كفصيل فاعل ومؤثر على الساحة العسكرية والسياسية السورية، إلا أنه، وفي الوقت نفسه، فإن هذا الفصيل استمد قوته -وما زال- نتيجة عدم وجود مشروع وطني، يملأ الفراغ الذي ملأته النصرة بخطابها الديني وأدائها العسكري؛ ولذا يُعدّ إيجاد مشروع سياسي وطني، تجتمع حوله وتتبناه الجماعات الثورية، وجاذب وطموح، ضرورة لم تعد تقبل التأجيل، خصوصًا في ظل تراجع أداء البدلاء الحاليين، وتقتضي الحاجة رفد هذا المشروع بأسباب القوة الرادعة التي تقي القوى الوطنية من حمى مواجهة النصرة عسكريًا، والمؤسسة للقضاء على ثنائية “إما تنظيم الدولة أو أنا”. هذا المشروع لابد أن يكون استراتيجيًا، سواء لمواجهة النصرة أو غيرها.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق