أثار اتهام الحكومة التركية ما يسمى بـ “الكيان الموازي”، أو حركة “الخدمة”، التي يرأسها الداعية فتح الله غولن، بالمسؤولية عن الانقلاب الفاشل في تركية، ليلة 15 تموز/ يوليو 2016، جدلًا واسعًا، خاصة في ما يخص مدى تغلغل هذه الجماعة، ذات التوجه الإسلامي داخل مؤسسات الدولة، وعلى وجه الخصوص المؤسسة العسكرية، والتي دائمًا ما كانت تمثل النهج العلماني الأتاتوركي.
بزوغ نجم غولن وهجرته
ولد غولن في قرية بمحافظة أرضروم شرقي البلاد، يوم 27 نيسان/ أبريل 1941، وتلقى تعليمًا دينيًا منذ صباه، واطلع على الثقافة الغربية وأفكارها وفلسفاتها إلى جانب الفلسفة الشرقية، وأثناء دراسته تعرّف “رسائل النور” التي ألفها سعيد النورسي (أحد أبرز علماء الإصلاح الديني والاجتماعي في عصره)، وتأثر بكتاباته وسيرته الشخصية، حتى أنه عزف عن الزواج، تشبهًا به وتفرغًا للدعوة.
عُين غولن في العشرين من عمره إمام جامع في مدينة إدرنة، لكنه بدأ عمله الدعوي في مدينة أزمير، وانطلق -بعدها- ليعمل واعظًا، يلقي الخطب والمواعظ في جوامع غرب الأناضول، كما رتب محاضرات علمية ودينية واجتماعية وفلسفية وفكرية.
خلال النصف الثاني من القرن الماضي، كان غولن من الرواد الذين كوّنوا الجيل الثاني من الحركة النورسية بعد تفرقها، منشئًا ما سمي -لاحقًا- بحركة “الخدمة” أو “جماعة غولن”، التي تعتبر أحد أهم وأقوى فرق الجماعة الأم.
يُعرف عن غولن تبحره في العلوم الإسلامية المختلفة، وبراعته في الخطابة، إضافة إلى غزارة إنتاجه العلمي، حيث ألف أكثر من سبعين كتابًا، تُرجمت كتبه إلى 39 لغة، في مقدمتها العربية والإنجليزية والفرنسية والصينية والألمانية والألبانية، وأغلب كتب غولن تدور حول التصوف في الإسلام ومعنى التدين، والتحديات التي تواجه الإسلام اليوم.
بزغ نجمه في تركيا بعد انقلاب عام 1980 الذي أيده ومدح قياداته العسكرية، بينما وجدت فيه القوى الحاكمة بديلًا للإسلام السياسي، لكن شهر العسل لم يدم، فتمت ملاحقته لسنوات عدة بتهمة تهديد النظام العلماني، ومحاولة إقامة نظام إسلامي، إلى أن ترك تركيا عام 1999، متذرعًا بالعلاج، واستقر في ولاية بنسلفانيا الأميركية منذ ذلك الوقت، حيث يترأس شبكة ضخمة، غير رسمية، من المدارس، والمراكز البحثية، والشركات، ووسائل الإعلام، في القارات الخمس، وقد أنشأ أنصاره وأتباعه ما يقرب من مئة مدرسة مستقلة في الولايات المتحدة وحدها، كما اكتسبت الحركة زخمًا قويًا في أوربا، منذ أن تأسست أولى مدارس غولن في شتوتغارت بألمانيا عام 1995.
حركة الخدمة
قام غولن بتشكيل نواتها الأولى، أوائل عام 1970، بمدينة إزمير، قبل أن تتوسع لتصبح حركة، لها أتباعها داخل تركيا وخارجها، وتعتمد في مرجعيتها على الفكر والقائد معًا، وهي جماعة إسلامية تُنسب للحركة الصوفية، وأهم ما يطبعها أنها اجتماعية وقومية، تُركّز على مسلمي تركيا، وتنزوي عن باقي الهويات الإسلامية، ولديها انفتاح على الغرب خاصة.
اهتمت الحركة -في الدرجة الأولى- بالتعليم وإنشاء المدارس، بمختلف مستوياتها، داخل وخارج تركيا، إضافة إلى إنشاء مؤسسات اقتصادية وإعلامية وطبية وثقافية وإغاثية، وتعد هذا وسيلة لإعداد كوادر، يتولون عدة مهمات في الدولة مستقبلًا، كي تبقى الحكومات -دائمًا- تحت وصايتها، وركزت الجماعة على التعليم الحداثي في جميع المستويات، ولها مدارس ومعاهد منتشرة في جميع القارات.
على الرغم من عملها على الساحة التركية منذ عشرات السنين، لم تؤسس الجماعة -حتى الساعة- حزبًا سياسيًا ولا احترفت العمل السياسي، بل كانت تسعى -دائمًا- للتغلغل في مؤسسات الدولة من جيش وشرطة وقضاء وأمن عام، مكتفية في الانتخابات بدعم مرشحين أو أحزابًا معينة، مثل حزبي: الطريق القويم والوطن الأم اليمينيين وحزب اليسار الديمقراطي، بقيادة بولند أجاويد (صاحب الحادثة الشهيرة بطرد النائبة المحجبة من البرلمان)، حيث لم تكن يومًا على وفاق سياسي مع زعيم الحركة الإسلامية الراحل نجم الدين أربكان.
من الوفاق إلى العداء
“إذا كانت لك صلة بحركة غولن أو عملت معها، أو تطوعتَ في أحد أنشطتها؛ تتفتح لك الطرق في تركيا، وتحصل على أفضل الوظائف”، هكذا تحدثت الشابة التركية جوتشكه غل، التي كانت تشتكي صعوبة الحصول على عمل جيد، بعد تخرجها من الجامعة، لصحيفة الشرق الأوسط عام 2007.
مع بزوغ نجم العدالة والتنمية وتوليه زمام السلطة، نشأ حلفٌ غير معلن بين الحزب والجماعة، حصلت من خلاله الأخيرة على الكثير من الامتيازات، من نواب ووزراء، وحرية عمل وانتشار، في مقابل تصويت أعضاء الجماعة للحزب، تبع ذلك دمج عدد كبير من أعضائها في الحزب، وترقية كثيرين منهم في مختلف مؤسسات الدولة، خاصة جهاز المخابرات، إضافة إلى كشف بعض خطط الانقلاب على الحكومة التي شاع أن الجماعة هي من سربت وثائقها، إلا أن شهر العسل لم يدم طويلًا.
أصبحت جماعة غولن دولة داخل الدولة، بما لها من توغل حقيقي وقوي، داخل مؤسسات الدولة كافة، من جيش وشرطة وقضاء وإعلام، وهذه حقيقة معروفة في تركيا، عبر عنها السفير الأميركي في تركيا عام 2009، بقوله: “لم نجد شخصًا واحدًا يشكك في هذه الحقيقة”.
وصلت ممارسات الحركة للعمل ضد حكومة حزب العدالة والتنمية إلى الحدّ الذي اقترب من شخص أردوغان، حيث حاولت الحركة إسقاط رئيس مخابراته، هاكان فيدان، وأمين سره، فضلًا عن اتهام أردوغان للحركة بأنها وراء محاولة اغتيال ابنته، والتخطيط لاغتياله شخصيًا.
في 17 كانون الأول/ ديسمبر 2013، شهدت تركيا عملية أمنية خطرة، وحملة اعتقالات، استهدفت العديد من قيادات ورموز حكومة أردوغان، بدعوى مكافحة الفساد، كان من ورائها “الكيان الموازي” الذي تقوده حركة غولن، بالتحالف مع حزب الشعب الجمهوري.
لم تتوقف الضربات التي وجهها “الكيان الموازي” لنظام أردوغان؛ ففي شباط/ فبراير 2015، كشفت صحيفة “صباح”، عن قيام الكيان بتقديم رشوة مالية لـ 43 عضوًا في الكونجرس الأميركي؛ للتنديد بالسياسة التركية، وتشويه سمعتها واتهامها بمحاربة الديمقراطية، واتهم رئيس الوزراء السابق، داود أوغلو، حركة غولن بأنها تبعث برسائل إلى اللوبيات اليهودية والأرمنية والرومية؛ للتعاون معها ضد تركيا.
وأكد الخبير الألماني في شؤون تركيا، الدكتور غونتر زويفرت، عن تلك الرغبة في إسقاط الحكومة، بقوله “المحسوبون على هذه الحركة لهم -حاليًا- سياستهم الخاصة، القائمة بذاتها، في كلّ من الإدارات والشرطة، وكذلك -أيضًا- في القضاء والجيش ووزارة الداخلية، وتهدف هذه السياسة، في المقام الأول، إلى إضعاف الحكومة وزعزعة استقرارها”.
يرى المهتمون في الشأن التركي، أن حركة غولن سعت، منذ عام 2012، إلى إسقاط نظام أردوغان، مستغلة نفوذها وتوغلها في مؤسسات الدولة، وعلاقاتها الخارجية بالغرب الذي يرتاح لها ارتياحًا بالغًا، مما جعلها المتهمة الأولى بتدبير محاولة الانقلاب الفاشلة، وهو ما صرح به أكثر من مسؤول تركي، وعلى رأسهم الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، على الرغم من نفي فتح الله غولن أي صلة له بالعملية الانقلابية.