كان عام 2011 استثنائيًا في حياة العرب، شعوبًا وحكومات، ومن تونس كانت البدايات، وتتالت الحكايات إلى أن وصلت إلى سورية، في آذار/ مارس 2011، وهو الشهر الذي اتفق فيه القادة العرب، في قمتهم التي عقدت بالقاهرة، عام 2000، تحت شعار “مؤتمر الأقصى”، على تنحية خلافاتهم الجانبية، وعقد قمّتهم بشكل دوري، في آذار/ مارس من كل عام، إلا أنه وبسبب ثورات الربيع العربي، وتنحّي بعضهم، أُعلن عن تأجيلها عام 2011، وأعلنت جامعة الدول العربية أن تأجيلها يأتي بسبب الأوضاع العاصفة ببعض الدول، ثم عُقدت قمّتهم المؤجلة في بغداد عام 2012، وتتالت الكلمات لمن حضر، ولمن أرسل موفدًا، وللضيوف وأصحاب الدار، والكل ترقّب وانتظر نتائج القمة الأولى، بعد ربيع هزّ كيان العالم العربي في امتداده على قارتي آسيا وأفريقيا.
في قمّة بغداد التي كانت نتاج التأجيل، كان الملف السوري هو البارز مع تقدم ثورة شعبها على الأرض، وكان بشار الأسد قد استنفر كل آلته العسكرية بوجه هذا الشعب، واستباح المدن والقرى والأخضر واليابس، وهدد العالم شرقًا وغربًا بأن الأرض ستتزلزل تحت أقدام الجميع، إن وقفوا مع السوريين في وجه الموت القادم، ولم يتوقع السوريون أن يُنفّذ الأسد وعيده، إلا أولئك الذين خبروا النظام وقمعه وعنفه.
كانت تلك السنة قمة بغداد (الرشيد) هي قمة بغداد (المالكي)، وحضرت سورية بكل الكلمات كملهمة للأمنيات والخواطر والرثاء، لكن انحياز الحكومة العراقية للنظام السوري، خفّض سقف كل شيء، وغاب صوت الثورة، كما غاب العرب عن قضاياهم.
في الدوحة عام 2013، كانت القمّة الثانية بعد الربيع العربي، وشكّلت فارقًا للسوريين حين شغل ائتلافهم مقعد سورية، ورفرف علم ثورتهم ليذكّرهم بزهو استقلالهم عن الفرنسي، في أربعينيات القرن الماضي، وسَمِع السوريون كلّهم أن لهم صوتًا يحاكيهم، ويحاكي العالم غير صوت الأسد، الأب والابن، واستبشروا خيرًا، وابتدؤوا التحضير لاستلام مقعد بلادهم بجامعة الدول العربية، ورجّحوا استلام السفارات والبعثات الدبلوماسية، وتحدث الزعماء العرب في تل القمة عن واقعهم وحال شعوبهم، ونكبات أجيالهم وتنمية دولهم وشجاعة قراراتهم وقوانينهم، دون أن يتحقق للسوريين ما أملوا فيه، وانتهت القمّة، وتتالت الأشهر ثم تتالت القمم، من الكويت إلى مصر، وصولًا إلى المغرب التي اعتذرت عن استضافتها؛ فرحّبت موريتانيا بعقدها على أرضها، كي لا تؤجل قمّة العرب، فكانت قمّة 2016.
في قمة نواكشوط، شخّصت الكلمات حال الأمة، من ليبيا إلى بغداد، مرورًا بسورية واليمن، ففي سورية تتوالى النكبات والمآسي بعد أن أرغم النظام أحد عشر مليونًا على مغادرة بيوتهم، وفي اليمن تعمل مدافع الحوثيين؛ لتُدمّر ما لم تدمره كل حروب اليمن عبر التاريخ، وفي العراق لا يجد النازح كفيلًا من وطنه ولهجته وجلدته خارج غربة الطائفة، وفي لبنان لا دولة ولا رئيس ولا حكومة ولا عاصمة كمنارة للشرق، وفي القاهرة ترقّب وفراغ، وفي ليبيا أمراء شوارع وسماسرة هجرة بشرية نحو أوربا، ورصاص من بقايا الكتاب الأخضر؛ حوّل البلاد إلى خواء.
عُقدت قمة العرب الأخيرة وتكلّلت بالشكر والنجاح، وعَقدت العزم على أن تعمل كي يأخذ العرب مكانتهم التي يستحقونها بين الأمم، وعادت في الكلمات إلى خطاب قمّة عام 1946، في أنشاص بالإسكندرية، كأول القمم حين دعت لكي يساعد العرب بعضهم بعضًا لأجل نهضتهم، وتوحيد جهدهم، وعروبة فلسطينهم، وتحديد هويتهم، هكذا كان -أيضًا- مختصر بيان قمة نواكشوط عام 2016، حيث الأمة ما زالت تبحث عن خطة تخرجها من خيباتها، إذ ورد في بيانها الأخير العمل على تطوير آليات مكافحة الإرهاب ونبذ التطرف، ودعم صمود الشعب الفلسطيني، والتأكيد على مبادرة السلام العربية مع إسرائيل، والتي ما زالت إسرائيل تعرقلها، والدعوة لحل عادل لقضية اللاجئين، ومطالبة المجتع الدولي لتنفيذ قراراته بخصوص الجولان السوري المحتل، أما بالنسبة لما يجري في سورية فقد دعت القمة لإيجاد حل سياسي، استنادًا إلى بيان جنيف، وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة، كما رفض البيان التدخلات الخارجية، وخاصة الإيرانية في الشأن العربي، ودعا إلى صيانة الوحدة الثقافية من خلال التشبّث باللغة العربية الفصحى، وتدعيمها كوعاء للفكر والثقافة، وغير ذلك من أمور تتعلق بالتعليم والأمن والتعاون الإقليمي، وخاصة في أفريقيا، وكل ذلك ورد في عناوين عامة ضمن البيان الختامي.
لم تُقدّم القمة الأخيرة للشعوب العربية شيئًا مختلفًا أو ملموسًا، ربما بسبب حالة عدم الاستقرار التي تمر بها المنطقة العربية عمومًا، وعدم قدرة العديد من الدول العربية على الالتزام بأي قرار يُتّخذ، أو بسبب الضغوط الكبيرة التي تُهدد جمهوريات قلقة، ويُخشى أن يطول انتظار العرب، والسوريين على وجه الخصوص؛ فالقرارات مؤجّلة حتى تنتهي الحروب العربية، ويبزغ فجر دول دمرها حكامها، وعاثوا فيها فسادًا طوال عقود.