يبدو عنوان السنة الأولى من الثورة السورية، شبيهًا بسفر التكوين في العهد القديم.
في البدء كانت الكلمة (الحرية). “شدي حيلك يا بلد الحرية عم تنولد”.
كان الإجهار بهذا التركيب الساحر، وكأنه إعادة خلق الهوية السورية التي بدأت تحاول أن ترى نفسها، واجترحت هذه الكلمة الفضاء المعتم والرتابة القاتلة، خلخلت الثابت، وانعتق ما يزيد على نصف السوريين من مقام الصمت إلى مقال الصوت.
أشعلت الحرية قلوبهم، حناجرهم، حياتهم؛ فأطلق عليهم حرّاسُ الجحيم ذئابَ الحراسة والرصاصَ الحي.
في البدء كانت الحرية، صرخة في وجه اليباس، والتبلد، والتكلس، والتأبد، والتخليد والتكريس والتصميغ، والدبق. ترددتْ مليارات المرات في سنة واحدة، كُتبت بألف ألف طريقة. ابتكر السوريون أكثر من مليوني فعالية ثورية مدنية مدهشة، بعضها من وحي ربيع العرب، ومعظمها من عبقريتهم الخاصة. الهدف المعلن: الرغبة في الحرية السياسية وتحويلها إلى قوة؛ لإعلاء الكلمة المغموسة بالدم والترقب والمجد. تفتق الخيال عن طاقة مخزونة، غير مسبوقة في تاريخ الشعوب، ابتكروا الرقص في مقام الموت، الورد في مقام الرصاص، الصدر المشرئب في مواجهة الحديد والنار، الروح المتوثبة في مواجهة جحافل الكذب وكتائب الموت.
في البدء كانت الكلمة، وكان سفر التكوين، فخرج النازحون الأوائل، وبُنيت أولى الخيام، وفاض الجرح السوري، على اتساع البلد، وهطل الألم كبسًا، وزخًا، ومن كل فج عميق.
في السنة الثانية: سفر الأمثال.
الله سورية حرية وبس
الله سورية وبشار وبس.
الأسد أو نحرق البلد.
واحد واحد واحد الشعب السوري واحد.
الشعارات التي ابتكرها سفر التكوين السوري أصبحت حقائق؛ انفجر المكان والزمان، استطاعت الثورة أن تمسح التضليل والغبار عن الذات. التحديق في الصورة الحقيقية أظهر لنا نوعين من الشخصية السورية: نرسيس وسيزيف.
نرسيس السوري، يحدق في صورته، ليس من آجل التماهي مع جماله فحسب، بل ومع بشاعته أيضًا. وسيزيف السوري، لا يعرف إن كان يجر صخرته إلى أعلى، أم يقف في الأعلى، يركل صخور الآخرين، ويعيدهم إلى الوادي.
سفر الأمثال. الجوع والحصار (الجوع أو الركوع، مين ربك بشار الأسد، أرتدِ بدلتك العسكرية سيدي الرئيس، بشار عل العيادة وماهر عل القيادة، براميل، حسن نصر الله، عصائب الحق، مؤامرة الكون على رمز قلب العروبة النابض…)
في السنة الثالثة: الهولوكوست، إشعال المحارق، مسح المدن من الخريطة، الترنسفير، الغيتو، الإعدام الجماعي، المقاومة، الإلياذة السورية، في صراع عبثي بين الآلهة، وأنصاف الآلهة، خروج كل السرديات للتصارع على الأرض المقدسة، انهيار الرموز، تعويم الموت، الرايات السود، ملايين من الهاربين، تدمير الذات، المجد للرعاع، الشتات الكبير، ظهور الدواعش ممثلي الآلهة الوثنية بأزياء توحيدية، أحلام الخلافة، العنف طريق التمكين، من يقتل أشنع يتمكن أكثر، إعادة طقوس استدراج المهدي المنتظر، عام الظهور والاستظهار، محق المظاهرات.
العام الرابع: الخروج من منبت الألم، الهروب من التيه، الهروب من الإلياذة، الأوديسة المعاصرة، والأسطورة السورية تجوب البحار، الغرق، الحدود المصكوكة، العوم فوق جوازات السفر، توسع الشتات إلى القارات الخمس. ملاحم اللجوء، بعض من وخز ضمير العالم، وصول أقل من خمسة بالمئة إلى الأمان. الشتات السوري، الألم السوري، الصراخ السوري، كل من هو سوري معدوم، ومرجوم ومأثوم، إنه زمن الإثم السوري.
سورية عليها البقاء أرضًا للميعاد؛ هذا ما يجب أن يورثه الجيل الذي اختبر كل المحن في أقل من خمس سنوات.
السنة الخامسة والسادسة؛ عله في السنة السابعة يستريح.
منذ متى كانت سورية مستقلة، حتى يمكن القول إنها أصبحت في يد اللاعبين الإقليميين؟ لكن لأول مرة يكون لقاطني سورية رأي في الصراع. سورية عبر التاريخ، كانت قيادة وسلطة تحدد لسكان سورية ما يناسبهم من دون الرجوع إليهم.
لأول مرة في التاريخ الحديث للكيان السوري، وعمره لا يتجاوز السبعين عامًا؛ صوت من الأرض. صوتٌ يشبه طين الأرض، ولوثاته وحرارته، وحقيقته. شعب لم يعد يريد المساكنة القسرية مع الحاكم؛ فقرر أن يخلعه. صحيح لم يكن يقدّر حجم الضريبة، لكنه دفعها. ومايزال.
نعم ستتم تسوية دولية، إذا صدقت النبوءة في العام السابع من الألم؛ ما يؤخرها وحسب، أنه على عكس كل التسويات الدولية التي تحدث في التاريخ، لا أحد يستطيع تجاهل الطين، تجاهل من صار له صوت يعلو به، صوت ملغوم بالقهر، ومدغوم بالإيمان المعطوب، مغلول بكنايات الآلم، لا يعبأ بقواعد اللعبة. إنه صوت الصمت الذي انفجر.
سيكون عدد السوريين في الخارج قد قارب عشرة الملايين، بين دول الجوار، وما بعد بعد الجوار بكثير، سيكون الامتحان المقبل، أن يُبقي السوريون أرضهم حية في وجدانهم، يحولونها إلى أرض الميعاد، أن يستفيدوا من خبرة اليهود، أن يوجدوا منظماتهم، ويزرعوا بذار الحلم بالعودة في عقول وضمائر وحكايات أولادهم، علهم يجدون بلفورًا، يعطيهم وعدا بوطن قومي في أرضهم المقدسة.