كان الإطار القانوني الناظم لملكية وسائل الإعلام في سورية هو البلاغ رقم 4 الصادر في الثامن من آذار/ مارس عام 1963، أي في اليوم الذي استلم فيه حزب البعث السلطة، حيث أوقف هذا البلاغ إصدار الصحف في سورية، ولم يُسمح بعد ذلك لأحد، حزبًا كان أم فردًا، بإصدار أي صحيفة.
طوال خمسة عقود، مُنِعَ السوريون من إنشاء أي وسيلة إعلامية مقروءة أو مسموعة أو مرئية حرّة، وحُرموا من منابر ملائمة يُمارسون من خلالها حقهم في الاتصال والتعبير عن الرأي، وهيمنت وسائل الإعلام الرسمية وشبه الرسمية، التي تُعبّر عن رأي الدولة رسميًا والسلطة الحاكمة فعليًا.
كان الإعلام السوري إعلام سلطة شمولية استبدادية، عَدّته مُلكها، لا ينبغي أن يرى إلا بعينها ولا يتسع صدره للآخر، مهمته التهليل لمنجزاتها وإغماض العينين عن أخطائها وقمعها وجرائمها، وتعدد المُتدخلون في وسائل الإعلام حتى لم يعد يُعرف من يوجهها، هل هي الرئاسة، أم الحكومة، أم الوزراء، أم أجهزة الأمن أم رجال استخبارات من الدرجتين الثانية والثالثة.
بعد استلام بشار الأسد السلطة، أصدر قانون مطبوعات جديد، أسوأ من الذي تمسّك به أبوه، وشكّل في حينها صفعة لحرية الصحافة، حيث قيّد حق الاتصال وملكية وسائل الاتصال، ولم يعترف بالحرية وحق التعبير والتعددية، وفرض عقوبات على الصحافي أشد من قانون العقوبات العام، أي أنه تجاهل جميع الشروط التي تُؤهل الإعلام ليكون إعلامًا، ثم استخدمه لترسيخ سلطته كقائد أبدي لسورية ومُهيمن على مجتمعها.
كانت الثورة السورية فرصة للإعلام السوري الحر المعارض للظهور بشكله العلني والواسع، فنشط مثقفون وإعلاميون وسياسيون ورجال أعمال معارضون -مخضرمون وشباب- في هذا المضمار، فتأسست وسائل إعلام مرئية ومسموعة ومقروءة، ثورية في أغلبيتها، ساهمت بشكل لا يمكن تجاهله في إيصال حقيقة ما قام ويقوم به النظام السوري من قتلٍ للإنسان وتدمير للوطن والدولة وتخريب للسلم الأهلي، واعتزّ البعض باستقلاليته، وارتهن آخرون للممولين، وبالعموم وَلَّدت الثورة الشعبية ثورة إعلامية ثورية يُحسب لها حساب، وبات الإعلام شكلًا من أشكال تحدي النظام.
على التوازي، ظهرت موجة من الصحافة الثورية المعتمدة على صحافيين هواة، لم يلتزموا المهنية وقواعد الإعلام وأسسه، ولا بأصول إدارة العملية الإعلامية، ولم يَدُر في ذهنهم أن الإعلام سلاح خطير إن لم يُستخدم بالشكل الصحيح، واعتقدوا أن النيات وحدها تكفي لصناعة إعلام، ما سهّل انتقال أمراض إعلام النظام لهم.
لم تُؤسَّس بعض وسائل إعلام الثورة بشكل منهجي، ولم تضع خططًا مكتوبة تُحدد أهدافها واستراتيجيتها وأساليب عملها وثوابت التزاماتها، وعملت بسياسة ردّات الفعل والتحريض والتوجيه، والتزمت توجّهات تيارات سياسية أو تقرّبت منها، وحرصت على رضى الممولين، واهتمت أساسًا بالصراع المسلح، وجزئيًا بالصراع السياسي، ونادرًا بالمناداة بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والتعددية والتداولية وتكافؤ الفرص والمساواة والعدالة وفصل السلطات، واعتمدت أحيانًا على أساليب المبالغات والديماغوجية كإعلام السلطة، وأحيانًا على الإشاعات والأكاذيب (عن حسن أو سوء نيّة)، ولم تستطع أن تكون ذلك الإعلام الثوري البديل المُرتقب.
على النقيض تمامًا من إعلام السلطة، وبعيدًا عن بعض إعلام المعارضة سابق الوصف، سنعمل لتكون (جيرون) وسيلة إعلامية مهنيّة عميقة ومباشرة، جادّة متوازنة وثورية في آن، تنفتح على كل الأفكار التحررية، تحترم قارئها وتُشاركه، لا تحابي أحدًا ولا تحتكرها سلطة سياسية أو مالية، ولا تُغمض عينيها عن أخطاء النُخب، وفي الوقت نفسه لا تخشى تعدّد الآراء وتنوعها، وتلتزم دعم مطالب الشعب السوري المنكوب، ومطالب أي شعب يُعاني بسبب نظامٍ شمولي لا يرحم، على أمل أن تُساهم ولو بقدر بسيط -مع غيرها- في تشكيل الوعي، وعي بات السوريون في حاجة شديدة له في هذا الزمن، زمن الحالمين بدولة سورية ديمقراطية تعددية تداولية، وإعلام يملكه الشعب لا الحاكم ومنظومته السلطوية.