تبقى قضايا حرية التعبير والإبداع، خاضعة لتقييمات نسبية، بناءً على التكوين النفسي، والتصور الذهني، فضلًا عن الذائقة الجمعية، إن صح التعبير، سواء على المستوى الشخصي أم على صعيد المجتمعات. في سورية أحدثت ثورة آذار/ مارس 2011 تغيرات كبيرة، طالت معظم المستويات الاجتماعية والسياسية والثقافية، وحتى السلوكية، وشكلت تصورات ذهنية لقطاعات واسعة، تتمحور -في جوهرها- حول صراع مكتوم بين منظومتين قيَميتين:
الأولى، من صناعة ورعاية النظام، هشمت معالم المجتمع والوطنية السورية.
الثانية، على النقيض من الأولى تمامًا، جسدتها حناجر المتظاهرين في مختلف ساحات سورية، ويمكن عدّها نواة أولية لهوية وطنية، قد تكون هشة، لكنها بديلة من تلك التي عممها نظام الأسد على مدار ما يزيد عن الأربعين عامًا.
ربما من الصعوبة بمكان -اليوم- محاكمة العمل الثقافي- الفكري في ميادين شتى، وفق قواعد ومقاييس الماضي حتى الأكاديمية؛ لأسباب عديدة، أبرزها يتجلى في مخزون الذاكرة الجمعية عن عقود من الحكم الشمولي، وبالتالي؛ بات المطلوب إيجاد روافع مختلفة، لتأطير وتقنين المنتجات الفنية الثقافية، والفكرية بما يتيح المجال لأسلوب ولغة جديدين، اكتسبتها شرائح كبيرة من الأجيال الشابة، خاضت تجربتها باللحم الحي، تختلف -إلى حد بعيد- عن الأساليب التقليدية (لمشايخ) في العمل الإبداعي في مختلف الحقول.
لا شك في أن التغيير بات ضرورة، وكذلك مسألة التلاقح بين مرونة الجانب الجمالي، والقواعد الأكاديمية الحاكمة لأي عمل إبداعي، أصبحت ملحة أكثر من أي وقت مضى، دون أن ننكر بأن التغيير لابد وأن يرتكز على مراجعة جادة لمجمل المنظور الثقافي القيمي، المنتَج خلال العقود الماضية، انطلاقًا من الوقوف أمام الإخفاقات -ذاتيًا وموضوعيًا- للذهاب نحو تشكيل رؤية فكرية إنسانية، تتفق أو تتسق مع مكنون الوجدان المُتشكل حديثًا في بلادنا.
إن مراجعة بسيطة للقواعد التي حكمت مجمل مساحات العمل الناشئ بعد الثورة، قد تقود إلى مؤشرات -بالحد الأدنى- لا ترتقي إلى مستوى ما حدث إنسانيًا وفكريًا؛ ما يعزز وجهة نظر كثيرين في أن مستويات التغيير -على الصعيد الذاتي أو العام-ذهنيًا وفكريًا، ما تزال دون الطموحات الشاهقة، المعبَّر عنها في انتفاضة آذار/ مارس قبل ما يقارب ستة الأعوام.
لن ندخل -الآن- في مفاهيم “صراع الأجيال”، أو إلى تسرب شخوص ورؤى، والمنظومة القيمية الثقافية لعقيدة النظام إلى مؤسسات الثورة، كما لن نبحث في تقييم دور النخب السورية في صوغ مفاهيم جديدة، تعبر -بشكل أو بآخر، عن آمال شابة، تبحث عن ميادين مغايرة لما ساد سابقًا، وبحاجة للحقن بخلاصات أو توصيات أصحاب الخبرة؛ للخروج بمشروعات أكثر التصاقًا بالواقع المعاش، ترى النور دون وصاية من أحد.
قد تكون الحالة السورية -حاليًا- بحاجة إلى إعادة تعريف الهوية الوطنية، بما يتيح إعادة توصيف وتفنيد الذاكرة، بناءً على المعطيات الراهنة داخل البلاد، وكذلك على صعيد مجتمعات اللجوء؛ ما يقود نحو صوغ جديد لحقول الإبداع الفكري والثقافي، وفق رؤية وطنية جامعة، تتجاوز نتائج وتداعيات الشتات، جغرافيًا على الأقل.
مقدار ما يمكن أن يبديه من يتحكم -أو على الأقل المتنفذ- في معظم مؤسسات ومجالات العمل الإنساني – الفكري اليوم، من مرونة وقبول للأفكار الناشئة، بناءً على التجربة السورية خلال الأعوام الماضية، يبقى -حتى اللحظة- غير واضح المعالم، بالتالي؛ مدى تطوره نحو هوامش أوسع، تستطيع استيعاب وجهات نظر مناقضة، ابتعدت كثيرًا عما كان، وتحاول التموقع في ما سيكون، يبقى مثار جدل ونقاش وخلاف -بالحد الأدنى- على المدى المنظور.