غالبًا ما تكون الحوادث التاريخية العظيمة خارج دائرة التوقعات والتنبؤات، ولعلّ دائرة التحليل والاستنتاج هي الأقرب -دائمًا- إلى استقراء الحدث التاريخي الجلل؛ وعلى الرغم من قربها هذا، تبقى لحظة بدء الحدث ومآلات الواقع المتغيّر، والمرتبط حيويًّا به، عصيةً على التقدير والتحديد والتقويم.
لعل الحدث التاريخي الأحدث والأعظم عربيًا، والذي بدأ مع البوعزيزي، ينطبق عليه ما سلف ذكره؛ فمقدمات الفعل الثوري، في تونس 2011، لم يكن لأحدٍ المقدرة على التكهن بتبعاتها، سواء أكان على المستوى الداخلي أم على المستوى العربي أم العالمي. ومع انتقال “دومينو” الثورة إلى مصر، فاليمن وليبيا، ثم إلى سورية، وخلال فترة زمنية لم تتجاوز ثلاثة أشهر، أصبحت معطيات هذا الربيع العربي، بوصفه حدثًا تاريخيًا جللًا، واضحة المعالم؛ فالغاية والهدف هما إسقاط الطُّغم والأنظمة الاستبدادية، وإحلال أنظمة ديمقراطية وطنية بديلة، توفر مناخات الحرية والكرامة، وتضمن تساوي الحقوق بين المواطنين، وترسّخ وتؤصّل قيم حقوق الإنسان.
لقد كان الواقع العربي ما قبل ربيعه -وما زال في البلدان العربية التي لم تشهد براعمه بعد- محكومًا من طُغم استبداديّة متشابهة، من حيث الماهيّة والجوهر، وآليات الحكم والدور الوظيفي، على الرغم من اختلاف التوصيف الشكلاني لها، وقد أفرزت هذه الطغم في بلدانها، وخلال عقود سلطتها، مناخًا عامًا متماثلًا أيضًا، يشوبه التغييب والإفقار والتسلط وانعدام الحقوق والحريات بأشكالها كافة، فضلًا عن القمع والترهيب والإجرام.
هذا التشابه، أو التماثل، جعل من مسألة إسقاطها أمرًا لا مفرّ منه، من وجهة نظر المنطق التاريخي؛ فأوضاع وشروط تونس السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقانونية السيئة، هي ذاتها في جميع الأقطار العربية، وزين العابدين بن علي ليس أكثر من أنموذج متكرر، نجد أمثاله في أقطار أخَر، مع اختلاف في الدرجة لا في النوع، مثل حسني مبارك والقذافي وعلي عبد الله صالح والأسد، وفي بقية البلدان.
هذه المعطيات المتشابهة هي ما دفعت، بعد سقوط بن علي، الحكام العرب إلى تحسّس لحاهم؛ وعلى الرغم من تصدّر كل من سورية ومصر وتونس وليبيا واليمن مشهد التغيير، إلّا أن هذا لا يعني البتّة أن واقع من هم خارج تداعيات ربيع التغيير -هذا- قد استقر استقرارًا نهائيًا، وأنه سيبقى على ما كان عليه قبل الربيع العربي.
اليوم، وبعد ما يزيد على خمس سنوات من بدء الربيع العربي، تقفز إلى الأذهان تساؤلات ملحّة، تستهدف سياق ومآلات هذا الربيع وارتداداته، هل انتهت حيويّة هذا الربيع؟ هل ما يشهده -حاليًا- يأتي في منزلة الترقب أم الجمود أم العزوف، خصوصًا بعد توقف أدائه كميًّا (فبعد سورية لم نرَ دولًا عربية انخرطت جديًّا في هذا الربيع) وتراجع أدائه النوعي (فشعوب الدول التي تلقفت الثورات، لم تنجز بعد ما انطلقت في سبيله، سواء أكانت تلك التي أسقطت أنظمتها، أم تلك التي لمّا تسقطها بعد).
إن محاولات الإجابة -بجذريّة- عن تساؤلات كهذه، وعن أسئلة أخرى بنيويّة، عليها أن تنطلق -أولًا- من حيثيّات الواقع الذي أفرز شرارة هذه الثورات واستمراريتها ، ومن العوامل التي شكّلت رافعة انتقالها السلس إلى أكثر من بلد عربي ثانيًا، وممّا دفعته دول الربيع العربي من ضرائب باهظة الثمن، من جرّاء مطالبتها بالحرية والكرامة ثالثًا. وعند الوقوف على هذه الأرضية، فإننا سنجد أنه طالما استمرت الشروط التي دفعت بالحجر الأول من أحجار “الدومينو”، وأسقطته قائمة، فاحتمالية استكمال باقي الأحجار هي حتمية مؤجلة؛ لأن بيئتها الحاضنة لا تزال قائمة؛ ومن هنا -أيضًا- يمكننا إدراك أن التوصيف الملائم لحالة الربيع العربي اليوم، هو قربه من حالة التأهب الدائم؛ فالشعوب العربية المتطلّعة إلى الحرية قد أعلنت القطيعة التامة مع أنظمتها الخارجة على منطق التاريخ، وهنا تزداد مسؤوليات ثوار وأحرار البلدان العربية الرائدة في ربيعها، فعليهم تقع مسؤولية إنجاح هذا الربيع وإنضاجه وإثماره، من جهة، وتقديم نتائج تساهم في زيادة الدوافع لاستئنافه في بلدان التأهب للربيع العربي، من جهة أخرى.
على هذا الوتر -بالذّات- تعزف جميع القوى المضادة للربيع العربي؛ فقد شهدنا محاولات حثيثة، طوال السنوات الماضية، من القوى العالمية والإقليمية، وقوى الاستبداد العربية، لعرقلة الربيع العربي، وتأخير تتابع سقوط أحجار “الدومينو”، فضلًا عن العمل المستمر لتشويه الثورات العربية، عن طريق إلباسها لبوسًا مختلفًا؛ ولعلّ الأهم هو العمل على تعزيز فكرة تحوّل مسار الربيع العربي إلى خريف الفوضى والعنف والدماء، لدى الرأي العام للشعوب التي تتأهب، أو تستعد، لاستكمال “دومينو” الربيع العربي.
يندرج في إطار ما سبق الصمت الدولي عن جميع الانتهاكات، التي ترتكبها الطغم الحاكمة في البلدان التي اجتاحها الربيع العربي، ووسم ما يجري فيها بالحروب الأهلية، والاقتتال الطائفي، والإرهاب، فضلًا عن ترجيح احتمالات تقسيمها، والسكوت عن مظاهر التدمير والتهجير والموت فيها. هذا كله من أجل تعزيز فكرة فشل الربيع العربي، وكارثية نتائجه، وبالتالي؛ منع تقدمه في اتجاه بقية الدول التي تنتظر دورها.