لم يستوعب مرتادو نوادي اليسار العربي، وربما غيرهم، أن ذلك العملاق الشيوعي، المسمى الاتحاد السوفييتي، قد تفكك، وتشظى إلى غير رجعة، وتشكلت دول جديدة، بدساتير، وأحزاب، واستراتيجيات مختلفة عمّا ساد، لعقود خلت، خلال القرن الماضي، ولم يقرأ هؤلاء -حتى الآن- أن روسيا الاتحادية التي نراها اليوم، هي ليست روسيا الشيوعية اليسارية، زعيمة البروليتاريا العالمية، وسيدة حلف وارسو، الذي -بدوره- زال من الوجود، بفعل زوال المنظومة التي شكلته.
مازالت أغلبيّة تيارات هذا اليسار، وتشكيلاته، ترى في فلاديمير بوتين “الرفيق المناضل فلاديمير”، ويفكرون، ويحللون، ويستنتجون، ويبنون علاقات وهمية، على أساس أن روسيا الاتحادية، هي وريثة نشرة نوفوستي التحليلية، التي لطالما وزعها مكتب الصداقة الروسية السورية، عبر البريد، أو في المركز الثقافي الروسي مجاناً؛ لتثقيف جمهورنا السوري الكادح، المكافح، المقاوم شرور الدنيا وإمبرياليته، سارقة قوت البشرية، والتي أصبح العديد من يسارنا، يرى في كل خصم للولايات المتحدة الأميركية، صديقًا لهم، حتى إن ارتكب جرائم ضد الإنسانية.
اليسار والتصوف الفكري
في تلك العقود المدهشة، والخادعة، من التاريخ النضالي، لعدد لا بأس به من اليساريين السوريين، والتي كانت مليئة بالتناقضات السياسية، والفكرية، التي ربما أثّر تراكمها في جزء مما نحن فيه الآن، في الثورة السورية، إذ أبعدت تلك الثقافة العديد منهم عن واقعهم، وأدخلتهم في كهنوت التصوف الفكري، وبنت لهم واقعًا افتراضيًا، يرونه في تلك الأحلام الوردية للشيوعية العالمية، حيث الصورة النمطية للرايات الحمراء، والرتابة العسكرية في الاستعراضات، والجدل البيزنطي حول حقوق الطبقة العاملة، في المشاركة بملكية وسائل الإنتاج؛ لنقل الدولة من حالة قانونية دستورية إلى حالة عقائدية، بقوانين فوق دستورية، تتماهى فيها قيادة الحزب الواحد الأوحد للدولة، والمجتمع مع كافة القوانين الوضعية، لتمتلك وحدها تلك الوسائل، وتقدّر وحدها، حاجة شعبها من العطف والحنان، التي يمكن تقديمها له.
بالعودة إلى الاتحاد السوفييتي، يمكننا القول: إنه لم تصل تلك المنظومة، مع كل من دار في فلكها، إلى تقديم أي نموذج يُحتذى به، أو يمكن النقل عنه، والتفاعل معه، إنْ في دساتير بناء دول، أو في قوانين تنظيمية وإدارية، أو حتى نقابية ومدنية، مرنة، وفاعلة، ومستقلة، ولم تقدم أي معايير حقوقية وإنسانية، وحتى اقتصادية، يمكن اعتمادها مراجع، بل، ربما انسحب ذلك على نمط التعليم وطرائقه، بمؤسساته، ومراحله المختلفة، بدءًا من المرحلة الابتدائية، وصولًا إلى المرحلة الجامعية إذ لم تكن قدوة حسنة.
إن قوة الاتحاد السوفييتي في القرن الماضي، لا تخرج عن كونها نتاج بناء جيش إمبراطوري لملايين الفقراء، من الدول التي كانت تشكله، مع ترسانة عسكرية هائلة، فيها كافة أنواع الأسلحة، التي لا شك في أنها ذات فاعلية عالية، بالفتك والتدمير، بما فيها السلاح النووي، إضافة إلى تلك المساحة الجغرافية الكبرى التي يشغلها.
عاشت روسيا القيصرية نهايتها، على وقع الحرب العالمية الأولى، التي أدت إلى مقتل نحو 9 ملايين إنسان، وسقوط 21 مليون جريح، علاوة على ملايين المفقودين؛ فتصدّرت بذلك قائمة الخسائر البشرية والمادية. أما الحرب العالمية الثانية؛ فقد خاضها الاتحاد السوفييتي البروليتاري، ويعدّ من أكثر الدول تضررًا بنتائجها، على الرغم من أن أوروبا كلها -تقريبًا- قد عانت من هذه الحرب، وأصبحت أغلبية دولها -صاحبة الامبراطوريات التاريخية- مجموعة من الدول المدينة والمنكوبة، لكن؛ سارت أوروبا على طريق نهضة مدنية، وحقوقية، وفكرية، وصناعية، بعد تلك الحرب، بينما بقي الاتحاد السوفييتي حبيس أفكاره، التي بنى عليها سياساته البروليتارية التوسعية، فدخل الغرب والشرق في حرب جديدة، هي الحرب الباردة، التي أدت في النهاية، إلى تفكك الاتحاد السوفييتي عام 1991، وانهيار المنظومة الشيوعية، ليتضح أن تلك الدول كانت مبنية على كثير من الهشاشة القانونية، والاقتصادية، والسياسية، فابتدأت حتى حركة هجرة نشطة منها نحو الغرب، مع ذلك الانهيار.
روسيا تبيع اليسار السوري للأسد
في سورية؛ وطد حافظ الأسد، علاقاته مع المنظومة الشرقية، على كافة المستويات، ومن مفارقة تلك العلاقة مع الاتحاد السوفييتي، بصفته دولة عظمى؛ أنه تعامل مع رفاقه الشيوعيين، باستهزاء إمبريالي تحت شعارات بروليتارية، فقادَتُه، لم يهتموا برفاقهم الشيوعيين، الذين رماهم الأسد في السجون، بل وقّعوا مع نظامه عشرات الاتفاقيات، من دون أدنى شرط للإفراج عنهم، ومن بقي خارج السجون كان ممنوعًا من الوظائف، بل تفكك الحزب الشيوعي السوري إلى جماعات ومكاتب بأعداد بسيطة، ومشتتة. يمنع أعضاؤها من طباعة -حتى- منشور سياسي، يعبر عنها. ووحده تيار خالد بكداش، وما تفرع عنه، كان معترفًا به، كونه حالة ميسرة للبعث، ولنظام الأسد، في ذلك الديكور السياسي السوري، داخل ابتكار الجبهة الوطنية التقدمية.
استمر هذا الوضع السياسي على حاله، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وانتقال ذلك الإرث إلى روسيا، بكل أزماته، وتناقضاته الاجتماعية، والاقتصادية، والعسكرية، والسياسية، وعلى الرغم من إعلان روسيا الاتحادية، عن توجه رأسمالي، يقرّبها من الإمبريالية العالمية، العدو التاريخي للشيوعية، بما تمثله من حالة رأسمالية، يُفترض أنها معادية للطبقة الكادحة، ولحركات التحرر العالمية، بقي رفاق الأمس يتطلعون إليها، على أنها حاملة مشعل البلشفية اللينينية التاريخية، ومنارة الماركسية، التي ستقلب الطاولة على الغرب الأميركي، الأوربي الاستعماري.
بوتين والعقدة القيصرية
بقيت عقدة الحالة القيصرية للامبراطورية، مؤثرة في ذهن القيادة السياسية الروسية، على الرغم من عشرات الحروب، التي عاشتها خلال القرون الماضية، مع جوارها، بما حملته من مآسٍ، إن كان مع الشيشان، أو الأفغان، أو جورجيا وغيرها، لتأتي الآن طائرات، وسفن هذه الدولة، بأوامر بوتين إلى سوريا، وتحاول وضع بيض جديد، في سلة مساومات جديدة لا ندري على أي (بازارات) سياسية ستضعها، لتقامر بها، هل ستكون في أوربا، أم في حوض المتوسط، أم في الاقتصاد الصناعي، أم استثمار الغاز والبترول؟ دون أن ننسى مطالبها من حلف شمال الأطلسي، الذي يقترب من حدودها. لكن، كل ما تقوم به روسيا الاتحادية ضد سورية، إن كان في المحافل الدولية، بوقوفها في وجه كل القرارات، التي تدين نظام الأسد، وتقدم حماية للمدنيين، أو في عدوانها المباشر، الذي وصل إلى قصف المستشفيات، والمرافق الطبية، لا يعدو تعريفه عن أنه عدوان امبريالي، على شعب يطمح للحرية، ومع خلط بعض اليسار للمفاهيم عمدًا؛ يمكن أن نعرّف حالة روسيا “بالإمبريالية البروليتارية”، فبعض اليسار السوري، الذي لم يلحظ ضحكات كيري ولافروف، في لقاءاتهما المتكررة؛ ما زال يرى في روسيا عملاقًا، يقف في وجه الامبريالية الأميركية، ولا يراها علامة فارقة لروسيا، كعدو لحركة الشعوب الباحثة عن حريتها، على الأقل بالنسبة إلينا في ظل الأسد ونظامه منذ عقود وحتى اللحظة.