قضايا المجتمع

أسواق حلب القديمة: رموز تاريخية دمّرها النظام السوري

تُعدّ حلب واحدة من أقدم المدن المأهولة في العالم، اكتظت بالسكان منذ بداية الألفية السادسة قبل الميلاد، وشُيّد فيها -عبر التاريخ- مئات الأبنية والقلاع والأسواق التي أمست -مع مرور العصور- رموزًا تاريخية وأثرية، عاشت بعد اندثار الحضارات.

 

اشتهرت حلب بأسواقها التجارية القديمة التي تعود -في تاريخها- إلى تاريخ بناء المدينة نفسها، وتُعدّ مُميزة على مستوى العالم، من حيث كبرها وسعتها وتعدد الفعاليات الاقتصادية، التي تُمارس فيها منذ أقدم الأزمنة، وقد لعبت هذه الأسواق عبر التاريخ دورًا بارزًا في مكانة المدينة الاقتصادية والتجارية والسياحية والإدارية.

 

تعود أصول أسواق حلب إلى القرن الرابع قبل الميلاد، حيث أُقيمت المحال التجارية على طرفي الشارع المستقيم، الممتد بين باب أنطاكية ومعبد القلعة، ويرتقي بناؤها الجديد إلى نور الدين زنكي، وتوسعت في العهد الأيوبي، ثم في العهدين المملوكي والعثماني، وأُطلق عليها اسم “المدينة”، وكدليل على أهمية هذه الأسواق -قبل فتح قناة السويس- قول أحد الرحالة عنها: “إن ما كان يباع في أسواق القاهرة، خلال شهر كامل، يباع في أسواق حلب في يوم واحد”. وقد امتدت الفعاليات التجارية والصناعية المهنية واليدوية في أسواق المدينة؛ لتغطي 16 هكتارًا من مساحة حلب بأكملها.

 

أما طول سوق الشارع المستقيم -بتفرعاته- فيبلغ أكثر من ثمانية كيلومترات، ويزيد عدد محالّه عن 1550 حانوتًا، تؤلف 39 سوقًا، تُعدّ من أطول الأسواق المسقوفة في العالم، بطول يبلغ 15 كيلومترًا، وكانت سقوف الأسواق من الحصُر والقصب، وعندما احترقت عام 1868، أمر الوالي العثماني ببنائها مع نوافذ سقفية، وسُمّيت غالبيتها نسبةً إلى المنتج الذي تبيعه، كالحبّال والعباءات والعطارة، في حين اكتسب بعضها اسم مسقط رأس زوارها؛ فعُرفت باسم “سوق إسطنبول” أو “عمان” أو “الشام” وغيرها.

أخذت الأسواق المسقوفة شكلها الأخير مطلع الحكم العثماني، وتمركزت التجارة الحلبية القديمة فيها؛ فكانت مكانًا مثاليًا لبيع كل أنواع البضائع الفريدة، كالأقمشة والملابس والأحذية والأشكال المختلفة من القبعات والحلي، كما احتلت صناعة وتجارة البهارات والسجاد مكانة مهمة فيها، أما صابون حلب “صابون الغار”، فهو مشهور جدًا في كل أسواق العالم، وكان يُصدّر إلى بلدانٍ كثيرة.

 

صُنّفت هذه السوق من أجمل أسواق مدن الشرق العربي والإسلامي؛ لما تمتاز به من طابعٍ عمراني جميل، إذ تتوفر فيها نوافذ للنور والهواء؛ فتؤمّن جوًا معتدلًا لطيفًا، يحمي من حر الصيف ومن أمطار وبرد الشتاء على مدار العام.

 

صمدت أسواق حلب آلاف الأعوام، وبقيت مقصدًا للسياح الداخليين والغرباء، إلى أن استهدفتها قوات النظام بمئات البراميل والغارات الجوية وقذائف المدفعية، فهدّمت أجزاءً واسعة من أسقفها، ودخلت القذائف إلى السوق الخشبي القديم؛ لتشتعل الحرائق فيه وتلتهمه النيران أواخر عام 2012، حيث قَدّر المختصون نسبة دماره بـ 60بالمئة من مساحته، والتهمت النيران أكثر من ألف وخمسمئة من إجمالي خمسة آلاف محل.

 

تُقدّر الخسائر المادية التي خلّفها الحريق بمئات ملايين الدولارات، أما الخسائر الأثرية التاريخية، فلا تُقدّر بثمن، فالسوق مُسجّل في قائمة “اليونسكو” للتراث العالمي منذ عام 1986، تقديرًا لأنماط الهندسة المعمارية العربية النادرة والأصليّة التي يتسم بها، ولما يتضمنه من معالم، تشهد على التطور الثقافي والاجتماعي والتكنولوجي الذي عرفته المدينة منذ حقبة المماليك.

 

دمّر النظام السوري في حلب واحدًا من أهم الأسواق التراثية القديمة في المشرق العربي، دون أن يطرف له جفن، وليُضاف هذا العمل المشين إلى سجلّه الطويل في هذا المضمار، ويُخشى أن يستمر بسياسته التدميرية؛ ليقضي على كامل التراث المادي السوري الذي لا يمكن تعويضه.

Author

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق