قضايا المجتمع

البرلمان السوري (فانتازيا) أخرى

يحاول النظام السوري دائمًا البحث عن طرق جديدة لتلميع صورته وإظهارها بألوان براقة تعكس حضاريته وعلمانيته المزعومة، لكنها في كل مرة تُظَهّر الصورة في مختبرات فاشلة؛ فتبدو فاقعة لا يقوى المرء على النظر والتحديق فيها مليًا. ولعل أكثر الصور التي أصدرها النظام في ألبومه السياسي، كانت لنساء تدرّجن في عدة مناصب، حتى وصلن إلى مواقع لصيقة برأس النظام شخصيًا، فقد تعهّدت نجاح العطار وزارة الثقافة لسنوات كثيرة، منذ حكم الأسد/ الأب، حتى أصبحت نائبة الرئيس بعد تولي بشار الأسد منصب الرئاسة في البلاد، كذلك بثينة شعبان، التي وصفتها صحيفة “الديلي تلغراف” البريطانية بأنها “أكثر شرًا من سيدها”، أصبحت المستشارة السياسية والإعلامية في رئاسة الجمهورية، و لا يغيب عن بال السوريين جميعًا المستشارة الإعلامية لونا الشبل، التي كانت صورة من تلك الصور في وفد النظام المفاوض في مؤتمر “جنيف 2″، ولم تنتهِ تلك الصور الفاقعة، والتي كانت ستُعد طبيعية في سياق نظام عَلماني ديموقراطي حقيقي، ليس مدّعٍ لهما، حتى تُوّجت بوصول امرأة لأول مرة إلى منصب رئاسة مجلس الشعب.

 

 

في كل مرة، يثبت السوريون خفة دم وظرفًا محاطين بفطنة وذكاء؛ فلو أتيحت لهم فرصة العيش دون ضغوطات حياة التقشف، والقلة التي فرضها عليهم النظام طوال أكثر من أربعين عامًا، لكانوا حصلوا على المرتبة الأولى بين الشعوب بروح النكتة والمرح.. وهاهم يعدون وصول امرأة لرئاسة مجلس الشعب، وفي هذا الوقت بالذات، حلقة من مسلسل رمضاني، من المسلسلات التي ظهرت خلال سنوات الثورة، وليكتمل المشهد يأتي وصول المخرج نجدت أنزور استكمالًا لفنتازيا، كان له براءة الاختراع بتقديمها في الدراما السورية، ليكون تعليق السوريين على ذلك بأن أعضاء مجلس الشعب الآن يليق بهم ارتداء أزياء الجوارح والكواسر لتكتمل الصورة وتناسب المرحلة.

 

لكن هذه (الفانتازيا) حقيقةً ليست جديدة على النظام، وهو الذي حوّل سورية كلها على دولة خارج الزمان والمكان، قبل أن يغيّر معالم مدنها جغرافيًا وديموغرافيًا.

 

وصلت هدية عباس ابنة دير الزور – المدينة الأكثر نكبةً في سورية، بما عانته من النظام وداعش على السواء – إلى رئاسة مجلس الشعب السوري، بالتزكية، فلم يتقدم أحد بترشيح نفسه أمامها، بالنتيجة قُدّر لها هذا المنصب وكأنه تعيين، مكافأة لخدماتها الجليلة طوال مسيرة (حياتها النضالية) مع قيادتها ونظامها، واليقين أن ما حصل هو تنفيذ أوامر تلك القيادة التي ارتأت في المرحلة هذه، أن يكون المشهد على تلك الصورة الفانتازية العبثية، فتقديم المكافآت أمر لا يعنيه بقدر ما يعنيه اصطياد الفرص؛ لإظهار نفسه -على الدوام- عَلمانيًا حضاريًا، خاصة في الفترة التي كثر فيها الحديث عن مشاركة المرأة، بل تعداه لتشكيل تجمعات وهيئات خاصة بالمرأة، بدءًا من الوفد الاستشاري للمبعوث الدولي إلى سورية، دي مستورا، إلى الوفد الاستشاري النسائي لهيئة المفاوضات العليا، وما بينهما من منظمات وهيئات نسائية، وهنا لا يخفى على الجميع أن اسم عباس، توارد قبل أيام من عقد الجلسة التشريعية الأولى على أنها رئيسة البرلمان!

 

تكمن المفارقة في ردود الأفعال التي تلت وصول عباس إلى قمة البرلمان، حيث عدّ إعلام النظام وكثير من المقربين منه أن هذه الخطوة استكمال لدور المرأة، والعمل على حجز مكانها في كل موقع، فيما عدّ بعض النشطاء أن هذه المسرحية الهزلية من قبل النظام مكشوفة للجميع، وهي لن تُقدم مسيرة المرأة في ظله شيئًا، فلطالما كانت موجودة في مواقع، ولا يتعدى وجودها صورة شكلية، أسوةً بالكثير من الرجال، مهما علت مناصبهم، فهم محكومون بأجهزة المخابرات وما تقرره.

 

المستغرب أن تظهر بعض الأصوات ممن ذاقوا الظلم من هذا النظام، لتُرحب بتلك الخطوة، عادّة إياها خطوة مميزة، متناسية أو ربما غير مدركة أن هذا النظام لا يُقدّم أي تميّز إذا لم يصب في مصلحته الخاصة فحسب، وهنا لا يمكن الفصل أبدًا، بين ما يمكن عدّه ترسيخًا لدور المرأة وتثبيتًا لوجودها، وبين ما يمارسه النظام في طول البلاد وعرضها، ما دامت هذه الامتيازات تأتي بقرار منه.

 

لا شك في أن برلمانًا تكسو جدرانه الخارجية صور القائد الأوحد، ويُغيَّر الدستور تحت قبته في غضون دقائق، لا يمكن الوثوق بمن يترأسه، وبما سيُقَرّ داخله، مهما كان إعداد وإخراج سيناريوهاته محبوكًا وملمعًا.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق