أعادت روسيا -منذ مطلع الألفية الثالثة- إنتاج حضورها على الساحة الدولية برؤيةٍ مختلفة، تقترب أكثر من مفهوم الدولة العظمى بعد عقود من سيطرة رؤية “الدولة الإقليمية”، والتي ميّزت السياسة الروسية ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وجعلها تركّز في قضايا مرتبطة بالأمن القومي الروسي في محيطها الجغرافي، سواء في آسيا الوسطى أم منطقتي البلطيق والبحر الأسود، الرؤية الجديدة لموسكو تدفع باتجاه إعادة رسم جزئي لخيارات روسيا الخارجية، ومقاربة مختلفة لمصالحها الجيوسياسية.
ظهر أحد أوجه التغير في النظرة السياسية والاستراتيجية الروسية، من خلال تعزيز حضورها العسكري في حوض البحر الأبيض المتوسط، وخاصة في سورية، حيث تم تطوير بعض القواعد القديمة، وإنشاء قواعد جديدة برية وجوية، كدليلٍ مادي من الحضور العسكري الروسي المباشر في المنطقة؛ ما لعب دورًا بارزًا في رسم تحالفات واصطفافات جديدة، وتغيرًا في قواعد التوازنات القائمة بين مختلف القوى الإقليمية الفاعلة في الملف السوري الأكثر سخونةً في المنطقة.
التدخل الروسي جاء صراحة؛ لتعزيز مواقع النظام، وكان لزامًا على الروس إعادة ترتيب العلاقات مع طهران، وفق المستجدات التي فرضها الملف السوري، وهو أحد أبرز مدلولات التفاعل بين الدولتين، وعلى الرغم من بعض المؤشرات إلى مدى التوافقات بين موسكو وطهران، خاصةً في سورية، إلا أن عوائق عديدة تحول دون ارتقاء العلاقة بين الدولتين إلى مستوى تحالف استراتيجي، خاصةً أن إيران مهتمة بإعادة بناء علاقاتها مع الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، وذلك على ضوء المتغيرات التي فرضها اتفاق الملف النووي الإيراني، إضافةً إلى عدم ثقة روسيا بالإيرانيين وطموحاتهم المتصاعدة، وهو ما بدا واضحًا -في أكثر من موقع- من مواقع الصراع داخل سورية، و من جهةٍ أخرى رغبة الروس في إعادة ترتيب العلاقة مع تركيا والسعودية؛ ما يعني بالضرورة وضع حد للطموحات الإيرانية.
تقود المعطيات السابقة نحو تصوّر مفاده أن العلاقات الروسية الإيرانية تبدو -حتى اللحظة- في حالة تقلّب، ويصعب -معها- التكهن بمستقبل تلك العلاقات وتأثيرها على مجمل الإقليم، انطلاقًا من محاولات موسكو التفاهم مع الأميركيين على صياغة مرضية للمنطقة جيو سياسيًا، وهو ما يتطلب تفاهمًا، وترسيمًا لحدود مصلحية متضاربة، ومرتبطة بقوى إقليمية عديدة في الشرق الأوسط، بالتالي، أي محاولة لوضع تصور مكتمل عن خرائط المصالح والتفاهمات الجاري العمل عليها حاليًا تبقى غير ممكنة بانتظار ما يمكن أن تفرزه المعارك من معطيات جديدة.
تفنيد أو محاولة تفكيك حدود العلاقات الحاكمة بين موسكو وطهران، تحتاج -بالضرورة- تسليطًا للضوء على ما يجري شرق المتوسط، من إعداد داخل مطابخ السياسة الدولية لخرائط جديدة، قد تنهي -عمليًا- بعض الحدود التقليدية لأكثر من دولة، بالمعنى القطري، وتذهب باتجاه دويلات أو كانتونات قومية طائفية، انطلاقًا مما حصل في العراق، المشروع الذي تبدو روسيا -حتى اللحظة- غير مقتنعة به، وتحاول بناء مشروع مختلف في سورية، يحافظ على حدود الدولة القائمة، بغض النظر عن الفاتورة التي من الممكن أن يتطلبها المشروع الروسي، لا سيما أنه يرتكز على حماية النظام القائم، أحد أبرز عوامل تفكيك سورية -حسب رأي أغلب تشكيلات المعارضة السورية- بالتالي، فإن مستقبل ما سيحدث في سورية والمنطقة عمومًا على المدى المتوسط والبعيد، سيؤثر حكمًا على حدود وتخوم العلاقات الروسية الإيرانية، ومجمل العلاقات الدولية الإقليمية بناءً على المصالح الناشئة خلال الصراع المتواصل والذي يبدو أنه لن ينتهي قريبًا.