تحقيقات وتقارير سياسية

المفاوضات السياسية تعثّر مستمر وآمال مُتراجعة

تتساقط أمام عملية السلام السورية تعقيداتٌ سوريةٌ ودوليةٌ جديدة، كلما ظنَّ المراقبُ أنَّه يرى بوادرَ انفراجٍ للمأساة السورية التي بدأت باتخاذ النظام السوري آلته العسكرية أسلوبًا؛ للتعاطي مع الاحتجاجات المدنية ضد حكمه عام 2011.

 

خطوات المعارضة السورية تعكس حقيقة أنها الجانب الأكثر إرادةً في دفع عملية السلام في سورية، فيما يبدو النظام غير جادٍّ حيال الجلوس على طاولة المفاوضات، إلا إذا كانت الكفة العسكرية تصب في مصلحته تمامًا، بهدف فرض رؤيته، ورؤية الدول الداعمة له، على المعارضة السورية والمجتمع الدولي.

ويعكس سلوك النظام رغبته في تأخير فعالية العملية السياسية، وذلك من خلال عدم استجابته لقرارات بيان جنيف، الصادر في 30 يونيو/ حزيران من عام 2012، والقرارات اللاحقة الصادرة عن مجلس الأمن التي كان أبرزَها وقفٌ فوريٌّ لأعمال العنف، وإطلاقُ سراح المعتقلين، والدخولُ في عملية سياسية تُفضي إلى مرحلة انتقالية.

 

يقول سلام الكواكبي، أستاذ مشارك للعلوم السياسية في جامعة باريس الأولى، ونائب مدير مبادرة الإصلاح العربي، في تصريح لـ (جيرون): إن النظام والمعارضة “مقتنعان بالحل السياسي عبر التفاوض المباشر، أو عبر تفاوض الرعاة الدوليين والإقليميين”، موضحًا أن النظام -من جهته- “يستعين بسياسة الأرض المحروقة، بمساعدة فاعلة روسية – إيرانية – ميليشياوية؛ لتعزيز موقعه التفاوضي الآتي عاجلًا أم آجلًا”.

 

وأضاف: إن “المعارضة السياسية، التي لم يُرَد أن يكون لها تأثيرٌ يُذكر على القوى المسلحة، لأسباب متداخلة، تتخبّط في إدارة الملف في ظلّ مستجدات إقليمية محورية وفي ظل تراجع جليّ عن الاستماع إليها من قبل المجتمع الدولي تتحمل هي جزءًا مُهمًّا من مسؤوليته”.

لكن عبد الحكيم بشار، عضو الهيئة العليا للمفاوضات، يرى أن النظام غير جاد نهائيًا في مسألة المفاوضات، وقال لـ (جيرون): “منذ البداية لم يقبل النظام الحل السياسي؛ لأن النتائج والمخرجات النهائية لهذا الحل، ومهما كانت السيناريوهات، ستفضي إلى رحيل النظام، وخاصة رأسه، وستبدأ بعدها مرحلة العدالة الانتقالية”، وأضاف: “لذلك، فإن كل جهود النظام ومن خلفه إيران تصب في وضع العراقيل، بل ممارسة كل الأعمال القمعية التي من شأنها أن تعرقل الحل السياسي”.

 

نظام يصعد عسكريًا ومعارضة ملتزمة
يُشكّل تصعيد النظام العسكري العثرةَ الأبرز في سير عملية التفاوض السورية، لاسيَّما أن وقف قتل المدنيين، هو الغاية الأولى من العملية السياسية.

 

مرح البقاعي، عضو اللجنة الاستشارية للهيئة العليا للمفاوضات، قالت لـ (جيرون): إن “محاولاتِ روسيا ومن ورائها إيران والنظام الأسدي، لتحويل شرعية المفاوضات وصيغتها الأممية، إلى ما يشبه لعبة كسر العظم، مستمرةٌ ومتواليةٌ منذ قررت موسكو الدخول في عملية عسكرية واسعة على الأراضي السورية”، ورأت أنه “كلما ازداد الطرف المعادي للشعب السوري إمعانًا في القتل والتدمير وتشريد أهلنا؛ كلما ازداد -في المقابل- تمسّكنا بإرادتنا السياسية، وبجيشنا الحر، وفصائله التي دخلت العملية السياسية، وبالقرارات الدولية النافذة، ولو تأخر الوقت”.

 

إلا أن المعارضة في الوقت ذاته، وعلى الرغم من التصعيد العسكري من قبل نظام الأسد؛ لكسر إرادتها، لم تتراجع عن أهم ثوابت دفع العملية السياسية، المتمثلة بوقف قتل المدنيين، وفك الحصار عن المدن المحاصرة، وإطلاق سراح المعتقلين. وعلّقت مشاركتها في محادثات جنيف أواخر نيسان/ أبريل الماضي احتجاجًا على انتهاك النظام لكل المواثيق الدولية ذات الشأن.

 

الدكتور رياض نعسان آغا، الناطق الرسمي باسم الهيئة العليا للمفاوضات، قال لـ (جيرون): “لقد طلبنا تأجيل الجولة الأخيرة من المفاوضات؛ بسبب رفض النظام فك الحصار عن قرى ومواقع محاصرة، والآن يأتي حصار حلب؛ ليجعل الطريق إلى المفاوضات شائكًا وصعبًا، وهذا الحصار ينبئ باحتمال أن تقوم روسيا وحلفاؤها من إيران وحزب الله والنظام السوري باجتياح، يؤدي إلى مجازر كبرى ضد المدنيين”.

كما نوهت البقاعي إلى أن “المفاوضات معلّقة الآن، ليس برغبة المعارضة، بل لانتفاء الشرط الأممي لاستئنافها، وهو ما ارتكبته روسيا من كسر اتفاق الهدنة، وما جناه النظام من منع متواصل لدخول المساعدات الإنسانية، والمعارضة تقف في الطرف الصحيح من المعادلة الأممية، وهم في الطرف المظلم من التاريخ”.

 

الدور الدولي – الروسي – الأميركي في عملية السلام

يقول الكواكبي: إن “جميع الدول الفاعلة تعاملت مع الملف السوري بما يلائم مصالحها المباشرة، ولا يجب أن يكون هذا مدعاةً للاستغراب، أو منطلقًا للإدانة، إن فهمنا ألف باء السياسة”، ورأى أن قرارات مجلس الأمن هي “حبرٌ روسيٌ على ورقٍ أميركي، ولا يمكن الجزم بأن الروس غير متجاوبين معها، فالشيطان في التفاصيل، والتوافق بين القطبين مستمر في إدارة وتوقيت التفاوض وانعكاساته العسكرية والإنسانية على الأرض”.

 

بدورها، قالت البقاعي: إن “تدويل القضية السورية العادلة التي خرجت بمطالب شعبية سلمية وإنسانية، هو ما أحال الأرضَ السورية أرضًا لحرب الجميع عليها، وحرّف الثورة ومآلاتها عن المسار الأصلي لها، ووضع مصير الشعب السوري -برمته- في مهبّ الريح”. وأضافت: “هذا التدويل وخلط الأوراق كان من أهداف النظام الأسدي منذ البدايات؛ من أجل الاستعانة بحلفائه؛ لقمع الثورة ولو كلف ذلك خسارة السيادة الوطنية، وتشريد ثلث الشعب، وقتل مئات الآلاف. النظام الذي شرّع أبواب البلد لكل طامع وصاحب مآرب هو المسؤول الأول عما وصل إليه الحال في سورية، والغزاة ليسوا إلا نتيجةً حتميةً لطغيان الطغاة”.

 

من جهته قال بشار: إن “الدول الفاعلة تنطلق من مصالحها، وهناك العديد من الملفات الخلافية الكبيرة بين الدول العظمى، وتحديدًا الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الروسي، وأعتقد أن الملف السوري بات واحدًا من تلك الملفات، وسيتم التسوية ضمن رزمة من المسائل العالقة والخلافية بينهم”.

ويبرز الاتفاق الروسي – الأميركي؛ لتفعيل التعاون الثنائي في دفع الحل السياسي للأزمة السورية في الوقت الراهن، كبادرة في الطريق الصحيح، وفق بعض المحللين، في حين يرى آخرون أن الاتفاق ما هو إلا إعلان أميركي بتسليم الدفة في سورية إلى روسيا.

 

في هذا السياق، أكد الكواكبي أن أميركا “عهّدت حل الملف السوري إلى روسيا جزئيًّا مع بعض التعقيدات في التفاصيل، والإدارة الروسية تسعى لحسم المسألة عسكريًّا وسياسيًّا، قبل خروج إدارة الرئيس أوباما من البيت الأبيض”، وتابع: إن الإدارة الأميركية “كانت على الرغم من كل الظواهر الخارجية أو الادعاءات، مريحةٌ جدًا للروس كما للإيرانيين، في تنفيذ ما سعَوا إليه منذ البدء، في الإفصاح عن مواقفهم. وأكاد أقول بأن بوتين يسعى إلى شكر أوباما، من خلال الوصول إلى إنهاء العمليات العسكرية في سورية بالطريقة الروسية التي تُرضي الإيرانيين”.

 

لكن البقاعي لا ترى اتفاقًا روسيًا أميركيًا، وقالت: “تمكنت روسيا من جرِّ واشنطن إليها، وسلّمت الولايات المتحدة الملف السوري كاملًا لإدارته روسيًّا، وما تبقى من فترة حكم أوباما لا يكفي حتى للتفكير في أي نوع من التغيير الإيجابي، تُجاه تعديل كفة الميزان العسكري أو السياسي التفاوضي”.

من جهته شدد نعسان آغا على أن العملية السياسية “هي اتفاق دولي، يعتمد على بيان جنيف، لكن هذا لا يعني غياب الدور السوري؛ فالنظام يعطل كل إمكانيات الحل السياسي، بينما المعارضة متمسكة بالقرارات الدولية”.

 

المعارضة بين نقاط الضعف والواجبات

سعت المعارضة السورية إلى رصِّ صفوفها، من خلال تشكيل الهيئة العليا للمفاوضات، لتضع المجتمع الدولي على المحك، لاسيما وأنه لطالما اتهم المعارضة بالتشتت، وعدم توحيد الرؤية، إلا أن هذا التشكيل ركز عليها أعباء أكثر، وفرض عليها مسؤوليةً كبيرةً، بعد التأييد الشعبي والسياسي لها.

يعتقد الكواكبي أن “الخوض في أي مجال، حتى غير سياسي، يحتاج من القائمين عليه أن يتحلوا بالمرونة المُنتِجَة، وأن يتمكنوا من اجتراع الخطط البديلة، وأن يكون لهم دراية وافية بالملفات الشائكة، والتي تحتاج إلى خبرات وليس فقط إلى حسن النيّات”.

 

وأضاف: “إن العمل التواصلي جزء أساسي في أي مفاوضات، النظام السوري يقوم به بفعالية، معتمدًا على آلات دعاية عملاقة، وعلى خبرات بروباغانديَّة مديدة في الزمن”، معقبًا بالقول: إن “المعارضة تتخبط عبر تصريحات ظرفية أحيانًا، أو غير مدروسة، أو هي تعكس آراء فئة من مكوناتها، أو إنها تخرج عن أدبيات العمل الدبلوماسي، أو إنها تناطح الطواحين، أو إنها تتراجع كالعربة التي فقدت حصانها، أو إنها تقول الشيء وعكسه”.

 

ولتلافي ذلك، يرى الكواكبي أن “التأنيَ واجبٌ، وإيجادَ البدائل مفروضٌ، ومرونةَ الحوار والتحاور ضروريةٌ، وهي لا تعني -أبدًا- التنازل أو التقهقر كما يحلو لبعض الغوغاء أن يتهمها (المعارضة)، كما أن التواصل مع الإعلام، والذي هو أساسي للغاية، يجب أن يكون مدروسًا ومتناسقًا، بعيدًا عن المهاترات والعنتريات”.

 

وختم بأن “التعامل مع الفاعلين الإقليميين والدوليين، يجب أن يكون على مبدأ فهم الملفات الدولية بعمومها، وتقدير الموقف من تفاصيلها، والتموضع الفعال في ما بينها، كما توزيع البيض بين السلال وليس حصر وجودها في سلة واحدة، يمكن لسقوطها أن يحوّل البيض إلى ساحة من الأسف عندما لا ينفع الندم”.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق