كان الجو العام -آنذاك- ضبابيًا، ومازالت الأنباء تتواتر عن تجمعات لقوات الجيش، الذي يحتفل بعيده السادس والستين، بأرتال طويلة على كل المداخل المؤدية الى المدينة، أعانه على الانتشار مجموعات من الميليشيات التي بدأ تشكلها مع بداية الثورة السورية؛ ليقتحم في صباح الأول من آب/أغسطس 2012، مدينة “جديدة عرطوز”، ويرتكب فيها فاتحة مجازر غوطة دمشق الغربية، والتي راح ضحيتها أكثر من خمسين شهيدًا، أطلق الرصاص على بعضهم من مسافة قريبة، وذبح بعضهم الآخر بالسلاح الابيض.
دخلت إحدى المجموعات منزل شادي، ابن الستة عشر ربيعًا، لتعتقله مع أخيه عدنان، الذي يكبره بعامين، بعد أن اعتقلت أكثر من خمسين شخصًا بداية الاقتحام، واقتادتهم إلى مكان مجهول خارج المدينة، وكأن صغر السن لا يعفي صاحبه من المصير المحتوم، على يد الميليشيات التي لا تفرق بين كبير وصغير.
خرجت والدة الشابين خلفهم، وهي تصرخ: “أعيدوا إليّ أبنائي”، تارة بلهجة غضب، وأخرى بلهجة عجز، وتارة بلهجة رجاء؛ فماذا تعني الحياة عندما ترى بعينيك أولادك، وهم ذاهبون إلى المقصلة، أو إلى المجهول على أقل تقدير، عندها لن يكون لديك أي مانع من تجريب الغضب والعجز والرجاء، وكل ما يمكنك فعله؛ لاسترجاعهم أو استرجاع أحدهم على الأقل، وهذا ما حدث.
تمكن الغضب والعجز والرجاء من إرجاع أحدهم الى حضن أمه، عندما أشار قائد المجموعة إلى عدنان -ابن الثامنة عشرة- أن يعود إلى والدته؛ أبلغه بأن عليه أن يقطع الأمتار القليلة بينهما بسرعة كبيرة، وعليه أن يصل إلى أمه قبل أن تصل رصاصة إلى رأسه، من السلاح الذي كان يحمله بيده، ركض عدنان، وهو ينظر خلفه، خائفًا من تلك الرصاصة التي قد تصيبه في مقتل أمام عيني أمه، وكان عليه أن يتابع حدث موته، منذ بداية إطلاق الرصاصة؛ خائفًا -أيضًا- على مصير أخيه الصغير الذي بقي بين أيديهم، فالرصاصة التي لن تُطلَق لتصيب رأسه وهو يركض، قد تُطلَق -في وقت آخر- على أخيه الذي كان يطلب منه العودة الى أمه سريعًا، غير آبه بما سيجري له بعد أن أصبح في قبضة من لا يرحم.
حضنت الأم ابنها، وضمته إلى صدرها، وأطلقت لدموعها العنان، فرحًا بعودة ابنها الكبير إلى حضنها سالمًا؛ ناجيًا من المصير المحتوم، وحزنًا على ابنها الصغير الذي أصبح في عداد المفقودين من تلك اللحظة، وبدأ يغيب عن عينيها في زحام العسكر المدجج بسلاحه وآلياته.
اقتادت ميليشيات النظام وجيشه شاديًا، ومجموعة من المعتقلين الآخرين، الى مزرعة على أطراف البلدة، وكانوا قد غطوا رؤوسهم بقمصانهم وكبلوا أيديهم من الخلف، وهناك جرى توزيعهم إلى مجموعتين، واحدة مؤلفة من سبعة عشر معتقلًا، كان بينهم خمسة من عائلة واحدة، تم إدخالهم الى متجر قيد الإنشاء، والأخرى مؤلفة من خمسة معتقلين بينهم شادي، أُدخلوا إلى غرفة، يفصلها عن المتجر طريق عرضه بضعة أمتار.
في المتجر الضيق، بدأ الجيش والميليشيات بتعذيب المعتقلين، وبضربهم على رؤوسهم، مرة بالسلاح، ومرة بالأحجار المرمية على أرض المتجر، ثم أطلقوا الرصاص عليهم من مسافة قريبة، وقتلوا بعضهم ذبحًا بالسكاكين، وأفرغوا كل أحقادهم وهمجيتهم في أناس، ساقهم القدر -يومًا- ليقعوا في يد جيش مجرم.
هناك في الغرفة القريبة من المتجر التي لا تتجاوز مساحتها عشرة أمتار مربعة، كان شادي ورفاقه يسمعون صرخات رفاقهم القادمة من الجوار. كانت أجسادهم ترتعش لهول المصيبة التي وقعوا فيها؛ فأصوات الرصاص، الممتزج بصرخات المذبوحين، ليس له معنى سوى أن كل شيء قد انتهى، وأن أياديهم المكبلة، لن تستطيع منع المصير الذي منعه -ذات مرة- الغضب والعجز والرجاء.
عندما دخلتُ الى الغرفة، وجدت شادي مقلوبًا على وجهه المغطى بقميصه، ويديه مكبلتين من خلف ظهره، وبقعة كبيرة من الدماء تحته. كانت الرصاصة التي أطلقت على بطنه قد اخترقت يده اليسرى المقيدة من الخلف، وقد بلل دمه أرضية المكان، وجثث رفاقه مبعثرة في أرض الغرفة الصغيرة، حيث يمكنك مشاهدة دمائهم التي بدأت تختلط ببعضها.
لقد مضى على مجزرة “جديدة عرطوز” أربعة أعوام…