الساعة تجاوزت منتصف الليل، أصوات الرصاص تلعلع بابتهاج المنتصر!! سيارات الشبيحة تجوب الشوارع على وقع أغاني حماسية، وزعيق أبواق الظافرين، موجة حرّ قاتلة، ولا عرق يندى على جبين دمشق. ليلة سقوط أردوغان.
ما أسعده من حدث! خفقت له قلوب محبي الأسد؛ فراحوا يصفّقون بالنار، خارقين جدار الصوت والحياء، فها هو أحد المراهنين على سقوط الأسد، يهوي في ليلة ظلماء، رنين الهواتف لا يهدأ، الاسلاك والأثير تبث بشرى سقوط أردوغان “الإخونجي”، خائن الخبز والملح”، تبادل السوريون كليشيهات مقتبسة من تلفزيونات الأسد، في مكالمات لا يشك السوريون أنها مراقبة، حسنًا، لتكن هذه المناسبة فرصة؛ للتملق المجاني إلى المتنصت، وأيضًا؛ لبث دعايات مضللة عما يعتمل -حقيقةً- داخل الصدور، تبادلوا التهاني بجمل موحَّدة، مع اختلاف النبرات والتنغيم، ما بين مؤيدين ومعارضين؛ فمنهم من زغرد فرحًا وعلنًا، ومنهم من أجهش ببكاء مكتوم، ثمة أقارب، إخوة، أصدقاء، لاجئون في تركيا، مصيرهم مجهول!!
المسألة السورية -برمتها- ستتدحرج كحجر عثرة، الى قعر مجهول، والمأساة ستطول وتطول، تلك مخاوف قفزت الى أذهان المعارضين، والمحايدين الصامتين، لكنها لم تخطر في بال أي من الشبيحة والمؤيدين، بل على الضد تمامًا، هذه المخاوف تهيج مشاعر التشفي والشماتة، اللهم شماتة وشماتة وشماتة؛ وليذهب الخونة إلى الجحيم، ومعهم الإخونجية والدواعش، وليتجرع أردوغان سمّ السقوط. إذن، الحدث كما يرونه: انتصار على شخص(أردغان) وانتصار لشخص(الأسد).
إن فكرة الانتصار على/ والانتصار لـ، كانت كافية لفتح النار على الحواجز هياجًا وانتشاء؛ فكيف إذا تحولت إلى واقع! وحقًا سقط أردوغان، ومعه المتآمرين الخونة المطالبين بالحرية. ليكن صدرك يا سماء دمشق مفتوحًا؛ لتلقي رصاص الحواجز، لحظة الانتشاء البهيم، سوريون آخرون قلوبهم سقطت من مواقعها، وبعين المباغَت، تسمروا أمام شاشات التلفاز وشاشات أجهزة الحواسيب والهواتف المحمولة، ثمة كارثة تحصل، أي البحار ستبتلع ما بقي من السوريين، وأي تغريبات جديدة تنتظرهم!
الساعة تجاوزت الثانية، بعد منتصف الليل، فجأة، وكأنما غيمة هطلت في يوم حار، أخرست الرصاص، وعم الصمت، لقد فشل الانقلاب!! الصامتون تنفسوا الصعداء، وبدأت أصواتهم تعلوا خلف الجدران والأبواب المغلقة، لقد توقعنا أن الانقلاب لن ينجح!! في الواقع هم لم يتوقعوا، بل تمنوا، وتحققت الأمنية، لكنهم -أيضًا- لم يصدقوا، وبينما نام المنتصرون على خذلانهم، سهر الصامتون مع أوجاعهم، واستيقظت دفعة واحدة جراح السنوات الخمس، وهم يشاهدون تداعيات الساعات الأولى لمحاولة الانقلاب، رأى السوريون رجالًا بملابس مدنية، مجردين من السلاح، يجردون العسكر من سلاحهم وملابسهم، ويسوقونهم؛ لينالوا عقاب من يشهر السلاح في وجه شعبه! إنّ الجرح السوري نازفٌ، يستعيد ذكرى بدايات حصار الجيش للأحياء الثائرة، وكم كانت ساذجة تلك الدعوات؛ لإطعام العساكر، والترفّق بهم، ومحاولة استمالتهم؛ فهؤلاء، سواء كانوا جياعًا أم متخمين، عاجلًا وليس آجلًا سيهدمون البيوت على رؤوس ساكنيها، انشقاق واحد، وحتى الألف منهم، لن ينقذ المدينيين ولا العسكريين من حرب مقبلة طاحنة. شاهد السوريون الدبابات في تركية تستسلم -ببلاهة- أمام سيل المتظاهرين، ففاضت ذاكرتهم بصور دبابات جيشهم، يقودها أبناؤهم، تعجن بمجنزراتها أجسادهم وسياراتهم، وتسوي بيوتهم بالأرض، وتحول أحياءهم إلى ساحاتٍ أكبر من لطخة العار على جبين المجتمع الدولي، وشوارع أوسع من ذمم الدول الكبرى. صور لعساكر مهتاجين ينهبون المنازل، ويهتكون أسرارها، يعبثون بملابس العرائس الحميمة، ويمسحون مؤخراتهم بشراشف الحرير، ويكتبون بخرائهم على الجدران: نساء هذا البيت العاهرات ورجاله عرصات. أي عهر.! أي قهر هذا!؟
شاهد السوريون جيرانهم الأتراك يصعدون دبابة ، وينتشلون سائقها المذعور، فأطلت وردة غياث مطر حزينة باكية، وحضر جثمانه، وعليه تواقيع الجلادين، وعسكر يدوسون ظهور الأحرار في الساحات، ويكسرون أرجل وأيدي المعتقلين المفرج عنهم، بعد تسويات كاذبة، وحضرت جثامين الشهداء، ممهورة بكدمات مروعة، وقد شُرّحت، وخيطت على عجل، مع وثيقة “قتل في حادث”!! أي ذاكرة قريبة مدماة تلك! أي ذاكرة تتدفق من درعا إلى دمشق، والغوطة، والقلمون، وحمص، والقصير، والحولة، وحماة، والرستن، وبانياس، واللاذقية، والرمل الجنوبي، وإدلب، وحلب، والرقة، ودير الزور، والميادين، والبوكمال! أي ذاكرة نبشها الحدث التركي، وبحر الأعلام التركية، واتفاق المحللين على أن الشعب قال كلمته!
هذا الاستنتاج -وحده- كان كافيًا؛ ليصيب السوريين في مقتل، وكأنهم ما خرجوا إلى الشوارع والساحات، من جنوب البلاد الى شمالها، ومن غربها الى شرقها؛ ليقولوا: “بدنا حرية”، وكأنهم لم يموتوا من أجل كلمتهم، ولا انتُزعت حناجرهم، وكأن القاشوش خرافة، وكأن كل ما جرى أضغاث أوهام، وما يجري محض رهاب وإرهاب وترهيب، لا دمع يسعف السوري الجريح، وحده الأنين يخرج من بين مِزَقِ الأحشاء مكتومًا، في ليل دمشق اللاهب. وبدأ اليوم التالي في دمشق، هناك من قال: إن الانقلاب فصل مسرحي من مؤامرة “كونية”، وآخر كان أكثر واقعية وثقة في قوله: “لو أن المعلم فعل مثلما فعل أردوغان؛ فدعانا -من أول يوم- للنزول الى درعا، لكنا أنهينا التمرد في ساعة، لا خمس ساعات”!
ربما كان هذا صحيحًا، لو أنه كان لدى “المعلم” حينها فيس تايم!! أو -على الأقل- لو أن ما اشتعل في درعا كان انقلابًا، وليس ثورة. ولو أن غياث مطر كان ضابطًا رفيعا في “قواتنا” المسلحة، لا شابًا، يحمل زجاجة ماء ووردة.