في 2 آب/ أغسطس الجاري، توفي العالم المصري أحمد زويل، الذي قال يومًا: إن الغربيين “ليسوا عباقرة، ونحن لسنا أغبياء؛ هم فقط يدعمون الفاشل حتى ينجح، ونحن نحارب الناجح حتى يفشل!”، وعلى الرغم من هذا، طلب زويل في وصيّته أن يُدفن في مصر، وطنه الأم الذي غادره إلى الولايات المتحدة؛ ليحصل على درجة الدكتوراه في علوم الليزر منذ سبعينيات القرن الماضي، ثم حصل على الجنسية الأميركية في عام 1982، ليعود إلى مسقط رأسه مصر، وقد استراحت خلايا دماغه إلى الأبد، ليسجّى جثمانًا في تراب الوطن.
لا شك في أنها عاطفة البشر الطبيعية نحو أوطانها الأم، على الرغم من أنها منعت عنهم الهواء والشمس، وقتلتهم إما بالترقّب والانتظار، ضمن دائرة الحلم أو الشقاء، أو في السجون والمتاهات المظلمة، أو ملاحقين في الزواريب الضيقة، أوطان ضاقت بأبنائها على الرغم من مساحاتها الواسعة.
جائزة نوبل في الكيمياء التي حصل عليها زويل عام 1999، نتيجة أبحاثه التي أتاحت مراقبة حركات الذرات أثناء التحولات الجزيئية في زمن الفيمتو ثانية، وهو جزء من مليون مليار جزء من الثانية، تدفع الإنسان للنظر إلى الزمن الذي فات؛ ليجده ثقيلًا بطيئًا، هكذا العالم الذي بدأ يقيس أجزاء الثانية لحركة ذراته، بينما تقيس بعض الأوطان حجم تنفّس أبنائها، ومستوى علو صرخاتهم.
في 9 كانون الأول/ ديسمبر 2012، كتب العالم زويل الذي غادر عالمنا، في صحيفة البيان الإماراتية، عن سورية، وقال في خاتمة موضوعه: “مع حلول موسم العطلات المسيحية بعد أسابيع، سيكون من العار أن نحتفل بميلاد رجل السلام والإنسانية، الذي كانت اللغة الآرامية هي لغته الأم التي لا تزال تُستخدم في معلولا بسورية، في الوقت الذي تهيمن عمليات الإبادة الجماعية على الأراضي نفسها، التي كان هو وحواريوه يجوبونها قبل ألفي عام”.
رحل زويل ومازالت آلة القتل والتدمير تطحن بلد الأبجديات واللغات، وتغتال حضارة الإنسان الأولى، ومازال العالم يراقب إعدام حلب وأهلها، المدينة التي سُجّلت على صفحات التراث العالمي، كواحدة من أقدم مدن التاريخ.
لم يصغ العالَم لنداء زويل الذي قال في موضع آخر: “إن سورية هي الوريث الفخور لحضارة قديمة، ذات طيف فريد من الأقليات، يضم المسلمين والمسيحيين من طوائف متعددة، فهناك -على الأقل- عشر جماعات عرقية ودينية من هذا القبيل. وعلى امتداد قرون، عاشت جميعها معًا في سلام، والآن، ومع احتدام الحرب الداخلية، فإن هذه الوحدة تتفكك، متحولة إلى حرب مدنية وقبلية، لن تقضي على سورية بوصفها أمّة فحسب، وإنما سوف تمتد رحاها إلى باقي منطقة الشرق الأوسط”.
زويل المتزوج من سيدة سورية، هي الطبيبة ديما الفحام، ابنة شاكر محمد الفحام، الأديب والأكاديمي السوري الذي بذل حياته في خدمة اللغة العربية، عبّر عن موقفه المناصر للسوريين في نضالهم لأجل حريتهم، من منطلق اختصاصه أيضًا كباحث في الكيمياء، حيث أشار إلى استخدام النظام السوري الأسلحة الكيمياوية ضد شعبه، وطالب المجتمع الدولي بفرض حظر جوي وتقديم المساعدة للسوريين؛ لأجل تقويض قدرة النظام على قصف الأبرياء من الرجال والنساء، في مقال بعنوان: (هل ينتظر العالم إبادة جماعية في سورية).
حصل زويل على ثلاثين جائزة دولية، ونال عدة أوسمة، وخمسين درجة فخرية في مجالات العلوم والفنون والفلسفة والقانون والطب والآداب الإنسانية، وعينه الرئيس الأميركي، باراك أوباما، في المجلس الاستشاري الرئاسي، ومن ثم، كأول مبعوث علمي للولايات المتحدة إلى دول الشرق الأوسط، ولم تصغ له أي دولة من تلك الدول التي منحته الجوائز، ولم تردّ على تأكيده بأن الأسد “يخوض حربًا ضد أبناء شعبه، فيقصفهم من البحر، ويضربهم بالقنابل من الجو، ويقتلهم داخل منازلهم، وأن أكثر من 40 ألف شخص لقوا حتفهم، ولاذ أكثر من مليون شخص بالفرار خارج البلاد، فضلًا عن مئات الألوف الذين أصبحوا لاجئين في الدول المجاورة، مثل تركيا والعراق ولبنان”.
رحل زويل وبات أكثر من عشرة ملايين سوري مهجّرين من بيوتهم، وآلاف منهم ابتعلتهم البحار في دروب هروبهم من نظامهم، وباتت الضحايا بالملايين، والمقابر الجماعية بالمئات، وما زال العالم لا يصغي لعالِمٍ، ولا لنداء إنساني، بل مازال المظلومون يبحثون عن قانون دولي أكثر عدلًا وإنصافًا، على الرغم من تلك الجوائز التي تُقدَّم لقياس حركة الذرات في أجزاء الثواني. رحل زويل وبقي السوريون، يترقبون جائزة الحرية التي قدموا لها قربان دم، أشبه بمفردات أساطيرهم، كورثة الحضارات كما قال زويل.