أدب وفنون

تمثال ياسمين المتكسر

الآن أتذكركِ يا “ياسمين”. مرّ زمن طويل دون أن تخطري في بالي، إلا بضع مرات مع أحاديث الماضي والطفولة، أتذكركِ الآنَ وكأنكِ تقفينَ أمامي، عندما كنتُ من بين كل طلاب الصف السادس الابتدائي، أفضلَ طالبٍ يتحولُ إلى حَجَرٍ بسرعة مذهلة، وأتذكّر ثناءات معلّمة الرياضة، الآنسة “ميادة”، التي كانت تُغدِقها عَلَيَّ في لعبة التماثيل، حيث كنا نقفزُ ونلعب ونتحرك حركات هيستيرية كيفما نشاء، إلى أن تُطلقَ المُدرّسة صفّارتها؛ حينها، وبأقصى سرعة ممكنة يجب على الجميع أن يتسَمّروا في أماكنهم دون حراك، مثل التماثيل تمامًا.

بعد انقضاءِ حصصٍ رياضية عديدة لعِبنا فيها هذه اللعبة، اعتاد الجميعُ أن أكونَ أول الأصنام وأكثرَها تحجرًا وجديّة، (تماثيل.. تماثيل.. تماثيل.. ثم صافرة) لم أترك تفصيلًا في جسدي الصغير دون أن أُجَمّدَهُ: تَنفسّي، رمشة عيني، كل شيء.

  • “برافو عبّود، كالعادة أنتَ الأفضل، انظروا إليه، أنا واثقةٌ لو أنني أطلقتُ صفارتي وكان قافزًا لحظتَها في الهواء، لقاوم قانون الجاذبية وثبتَ في الفراغ”. قالت الآنسة لزملائي.

لم أكن معتادًا على مديحٍ كهذا، خاصة من امرأة ذات شخصية قوية مثل الآنسة ميادة، لذلك صرتُ – مع مرور الوقت- أشعرُ بأنني التمثالُ الخاص بها؛ تمثالُها المدلل.

صار يكفي أن تنظر إليّ حتى يكاد دمي يتجمد في عروقي، وكأنها “ميدوزا” التي تُحجّر كل من ينظر إلى عينيها، حتى بعيدًا عنها. كنتُ أتحولُ في البيت إلى تمثال، فلا أتجاوب مع نداءات أمي، لأقترب من مائدة الطعام، أو لأناولها أي شيء تريده، حتى تضحك ضحكة عالية أو تبلغ ذروة غضبها مني.

أحيانًا أتسمّر لدقائق ماسكًا الملعقة أمام فمي المفتوح، وعندما أقطع الشارع أيضًا، أتحجّرُ فجأة في نقطة المنتصف؛ فأسمع شتائم سائقي الدراجات النارية والسيارات، وأصوات الفرامل و”الزمامير” دون أن أتحرك أبدًا، وفي ملعب كرة القدم أجازف بتضييع الأهداف، كي أوقف جسدي في لحظة التسديد على المرمى.

أتذكركِ الآن يا “ياسمين”. عندما أصبحْتِ أبرعَ طالبة في تحطيم ذلك الحجر الصلب. في البداية لم تنتبه تلك المعلّمة إلى أنني لم أستطع أن أقاوم جاذبيتكِ بعد إحدى الصافرات، تسَمّرتْ عينايّ في قلبِ عينيكِ، احمرارٌ بسيطٌ على وجنتيكِ، ونصف ابتسامةٍ بريئة ومكبوتة، جعلتني أشعرُ -للمرة الأولى- بسقوط تفاحةٍ صغيرة اكتشفْتُها للتو على غصنٍ غضّ داخلَ صدري. كأنها المرة الأولى التي أرى فيها وجهكِ، وكأنني نيوتن مكتشف الجاذبية الذي لم أكن على درايةٍ به بعد.

أطلقتْ الآنسة ميادة صافرتها الثانية، والتي تعني عودتنا للقفز والنشاط والحيوية، وهو ما فعله كل رفاقي، وبقيت أنا وحدي أراقبكِ مثل كومة أنقاض وسط شارع مليء بالمارة.

بعد تلك الحصّة، حرصتُ دائمًا أن أحافظ على مكانتي، على تصلّبي وجمودي، لكنني فشلت، تناقصت مدائح المعلّمة، وتزايد غضبها عليّ بالتدريج.

  • ما الذي أصابكَ أنتْ؟ أين عقلكْ؟

عقلي كان معكِ، لم أكن أفهم وقتها ماذا يعني ذلك الانكماش في جِلدي، أو انقطاعُ البثِ المباشرِ بين عينيّ المفتوحتين ودماغي للحظة أو أقل. أسأل نفسي الآن:

  • هل كان حبّاً؟ لا، لا أظن أن الشعور الذي لا نعرف أن نفسرهُ في حِيْنِه، يمكن أن نُسميه حُبّاً فيما بعد.

في نهاية تلك السنة، وقفتُ كالتمثال عند زاوية المدرسة، عندما جئتِ لتودعيني، وتخبريني أن عائلتكِ ستنتقل للعيش في دمشق، بحكم عمل والدك. لم أفعل ولم أقل شيئًا، أدرتِ ظهرَكِ ومشيتِ بسرعة، وبقيت أراقب شَعركِ الخرنوبيّ، وهو يلوح لي، حتى اختفيتِ عند أول منعطف.

أسئلة كثيرة ظهرت فجأة في حياتي تلك:

  • لماذا يسافر الناس للعمل في مدنٍ لم يولدوا فيها؟
  • لماذا يتحدث الجميع عن المستقبل والسفر معًا؟ ألا يسكن أي مستقبل بالقرب منا؟
  • لماذا لم تكن فرصة العمل -تلك- من نصيب والد ماجدة!؟ ضروري والد ياسمين؟

في المرحلة الإعدادية انتقلنا إلى مدرسة ثانية، لا أعلم إن وَجَدَتْ الآنسة ميادة تمثالًا آخر مثلي. لا أدري إن صادفتِ صبيًا تمثاليًا يشبهني يا ياسمين، حتى علامات الاستفهام في كتبكِ المدرسيّة، كنتُ أعوّلُ عليها لتذكركِ بي.

لعبةُ التماثيل توقفتْ، ذهبتْ معكِ دون رجعة، توقفَتْ عند انتظار التماثيل لصافرة الحركة، يبدو أن الآنسة ميادة نسيتْ أن تفعلَ ذلك، لم تنتبه أنها لم تحررنا، بقيتُ بعدها لسنوات طويلة مجرد صنمٍ لا أكثر، صنم يلقى استحسان العابرين دومًا.

  • فليساعدنا أحدٌ ما في البحث عن الآنسة ميادة، نريد الصافرة، صافرة واحدة تكفينا.

البارحة كنت أحمل ابني على كتفي، هاربًا به من الموت الذي لم يوفر زوجتي، كنا في طريق النزوح خارج البلاد، حاولتُ أن أتذكر بيتًا شعريًا كاملاً من قصائد المدرسة لأسندَ عليه خيبَتي، لم أتذكر. القصيدة التي تُزجّ في كتب الأطفال، تكسب (شرح المفردات)، وتخسر المعنى والشِعرْ. لم يكن حفظًا ولم نكن حَفَظة. كل ما هنالك أن القصائد كانت ترتطم بنا، ثم تعود من حيث أتَتْ. لماذا لم يستبدلوها بالأغاني وكفى؟ في الطريق غنيت لزوجتي: “خِسَرْتَكْ يا حبيبي، لكن مو بيديَهْ”.

تذكرتك الآن يا ياسمين؛ لأنني عدتُ ذلك التمثال الذي تعرفينه، قدمي اليمنى استقرت على لغمٍ أرضي، لست متأكدًا أنه لغم، ولست متأكدًا بعد؛ أنه ليس كذلك. عشرات العائلات من النازحين تجمدت خوفًا من ألغام أخرى، وبدأت تسير في رتل واحد مبتعدة عني شيئًا فشيئًا. أنزلت ابني عن كتفي بحذر شديد، وطلبت من إحدى النساء أن تأخذه، رجوتها أن تعتني به وكأنه ابنها، لا أدري إن كان في نية الصاعق السماح لي أن أكمل معه مزيدًا من الحياة، حتى ولو برجلٍ واحدة، ولو بلا رجلين، نظرتُ إلى عينيه الباكيتين، أخذت نفسًا عميقًا من صوت بكائه، وهو يبتعد عني، ماسكًا يدَ تلك المرأة، وعدت كما كنتُ في السابق، صنمًا متقن الصنع، لا يتحرك أبدًا.

فجأة اقتربت مني امرأة، لا أدري من أين أتت، ثيابها لا تشبه ثياب النساء النازحات، اقتربتْ أكثر حتى اتضحتْ ملامحُها، إنها الآنسة ميادة، “ميدوزتي” الرهيبة، تفحّصَتْ عينيّ، لامَسَتْ أهدابي، استمَعَتْ لنبضات قلبي، راقبَتْ تنفّسي، وجهُها استعادَ علاماتِ الرضا التي كنتُ أعرفُها سابقًا “برفافو”، يبدو أنني عُدتُ كما كنتْ، تمثالها المفضل، رفَعَتْ الصافرة، اقتربت لحظاتي الحاسمة، وضَعَتْها في فمِها، بدأ قلبي يتصدّع، لكنني قاومت، وازددت تحجّرًا، إلا أنها لم تنفخ، لم تطلق صافرةَ الحركة، بل ذابَتْ، اختفتْ بسرعة وراء رتل النازحين، ومعهم طفلي الصغير. صَرختُ:

  • لا تستجِبْ إلى صافرتها يا حبيبي…

بقيتُ وحدي أراقبُهمْ، وأنتظركِ يا ياسمين؛ لتعودي من دمشق، لعلّي أنجح في أن أصبحَ تمثالًا فاشلًا، مرة أخرى.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق