ركزت المسيحية -في نشأتها في روما- على الفصل بين ما لله وما لقيصر، وكانت تلك نزعة (بطرسية) حكيمة، لحماية فئة صغيرة مؤمنة بعقيدة تخالف عقيدة الأكثرية، النزعة التي -أيضًا- أنتجت أول تصور إنساني شامل، في النظر إلى الفرد في الجماعة، بوصفه إنسانًا في المقام الأول بغض النظر عن إيمانه، لكنها بعد أن أصبحت الدين الرسمي لروما، لم تُبق شيئًا لقيصر في خطابها، ولم تُبق شيئًا لله في ممارساتها، إلى أن قامت الحركات الإصلاحية، وبزوغ فكر التنوير.
أما في الثيولوجيا الإسلامية، فإن معظم النقاشات حول الحاكمية وطاعة ولي الأمر، تجد في بدايات الرسالة الإسلامية ابتداءً من العهد النبوي المادة التي تستند إليها في الاستدلال على مسائل سياسة الرعية، وقد لا تحتاج إلى تأويل غريب؛ أو تفسير مريب، لإنتاج الأحكام التي أنتجتها هذه الثيولوجيا برعاية مباشرة من السياسي إبان العهد الراشدي، والذي تبلور دوره المؤثر والمنفرد عند استقرار الأمر لبني أمية.
اللحظة الفارقة بين موقف الإعرابي الذي يلوح للخليفة عمر بن الخطاب بسيفه، إذا ما حاد عن الصواب، وبين موقف أبي العباس السفاح الذي لوح بالسيف لكل من (ينبس ببنت شفة، منتقدًا أصغر عماله وموظفيه)، عهد من التحولات الفكرية والبنى الثيولوجية التي قلبها الفقهاء بين أيديهم؛ لتؤاتي مآرب السياسي في المحصلة، وإن لم تكن تخفي صراعًا خفيًا بين الفقيه والأمير، غالبًا ما تم حسمه لصالح الأمير، على الرغم من القلاقل المحدودة التي كان يثيرها الفقيه أحيانًا؛ فالبيعة حسمت الأمر، إذ تكون بيعة الفقيه للسياسي، والبيعة -بحد ذاتها- تحولت مع هيمنة السلطة على المجتمع إلى نمط من الطاعة المطلقة غير القابلة للنقد، هذه الحرطقات بين السلطتين: الزمنية والروحية كانت في المحصلة نشاطًا في أعلى الهرم، بينما قاعدة الهرم شبه خامدة، وقلّما تؤثر في بنية المفاهيم.
مع أن العهد الراشدي حفل بمفارقات نادرة بين الرؤية السياسية والرؤية الشرعية، إلا أن شخص الخليفة كان يختزل السلطتين؛ فكان هو الأمير وهو الإمام. وهذا الدور المشترك كان بدون شك آيلًا للانفصال مع التقدم المضطرد في رقعة الدولة وهيكلياتها، لكن ما يهمنا -هنا- هو مسألة المبايعة التي انحصرت بكبار الصحابة، وأقربهم إلى النبي الكريم (ص)، ابتداء من مبايعة أبي بكر الصديق، وانتهاء بالاختلاف الذي تلا عهد عثمان.
هذه المبايعة شكّلت نقطة النقاش الحادة بين السياسي والديني، إذ إن السؤال كان: هل تمت مبايعة القائد السياسي أم الإمام الديني؟ هذا السؤال غاب إبان العهد الأموي الذي لم يكن يملك فيه القائد السياسي تلك المكانة التي تؤهله رمزيًا لتبوء مكانة ودور الإمام الديني، بل إن هذا الفصل كان مؤاتيًا للقائد السياسي ليتحرر من سلطة التفسير الديني، وينحاز إلى فضاء التأويل السياسي.
كان الفقيه يستمد قوته من سلطته التفسيرية، إلا أن الرغبات المؤولة للأمير كانت قادرة على لجم أي مناهضة دينية، ومع أن الفقيه كان يستند إلى بنية دينية، والأمير يستند على بنية دنيوية، لكن كلاهما شهر في وجه الآخر سيف السماء، وليس سيف الأرض. فبقدر ما تكون هذه السلطة مقدسة؛ بقدر ما يكون عنفها تجاه من يناهضها أكثر تسويغًا وأشد تأثيرًا.
عبر تاريخ طويل ومضنٍ، ولا يخلو من الصدام، تبلورت نظرية البيعة، ولكنها كانت في المحصلة تعني الطاعة المطلقة المتعالية على أي معيار أو تقويم، مع بدايات الدولة الحديثة دخلت نظرية البيعة عهدًاً جديدًا من التفسيرات، ففي حين بقيت التفسيرات الدينية في حدود تفسيرها التقليدي المعهود، والذي لا زال مستمرًا في إطار المؤسسات الدينية الصرفة، أو في بنية الحركات الإسلامية التي تعمل على اختيار أمير الجماعة، لكن التفسيرات المستجدة لم تتمكن من بلورة هذا المفهوم وتطويره؛ لأنه مفهوم يستعصي -أصلًا- على الانزياح، فالبيعة تعتمد على الخاصة أو خاصة الخواص، أو بمفهوم سياسي أهل البيت أو أهل الحكم أو كبار الأعيان… إلخ، أي أنها مقصورة -أصلًا- على نخبة معدودة ومختارة، تتبعها شكليات اجتماعية نحو مبايعات زعماء القبائل والعائلات وكبار المتنفذين والأعيان، والتي لا تعني الموافقة على اختيار الحاكم، إنما تأتي تحت معاني الانضواء تحت ظله والتبعية والطاعة، والأمل في القرب منه.
وفي وضع الدولة الدينية التي تتبنى أحد المذاهب دون غيرها، يتخذ الديني مكانة تتيح له مزاحمة للسياسي وخاصة إذا انبنى هذا التزاحم على تعاون وثيق منذ بداية تشكل هذه الدولة، ومع أن هذا التحالف قد يوحي بالمشاركة، ولكن هذا الإيحاء هو إيحاء واهم، ذلك أن هذه (المشاركة) مبنية أساسًا على البيعة، أي مبايعة الديني للسياسي، وتبعية الديني للسياسي، كما أسلفنا، والطاعة العمياء لولي الأمر ما أطاع الله ورسوله، مع أن ربط طاعة الحاكم بطاعة الله ورسوله تبدو شرطًا يوحي بالطمأنينة، إلا أن التفسير المتداول والمحكم يصبح حجة على الديني إذ يتحول الديني إلى مجرد وصي على المعنى الذي يتبناه السياسي، ولن يتمكن من التحول إلى مُنظّر أو مُجدّد أو مُنقلب عليه بشكل (شرعي)، بينما الحاكم سيتمكن من التأويل متى شاء بما يملكه من سلطة تتيح له أن يتحصل بموجبها على أطراف دينية تجتهد في حدود ما يريد. وشرعنة رغباته. بمعنى آخر، الديني يختنق بتفسيره، بينما السياسي يتقلب ويتكيف بما يتيحه له التأويل مدعومًا بالسلطة المطلقة، هذه السلطة التي أنجزت أيضًا عبر التاريخ نظرية تحميها مهما استبدت، وتتمثل في حرمة الخروج على الحاكم.
لكن حرمة الخروج على الحاكم لم تمنع الخروج عليه، وشكّل الخروج عليه مأزقًا فقهيًا، إذ انتقل إلى السؤال التالي حول موقف الفقيه من فئة تطلب الرشد وتخرج ضد حاكم ظالم، مع أن الفقه تقليديًا طرح حلًا توافقيًا بين السياسي والديني يتسم بالحيادية، وذلك من خلال (التخلية بينهما)، أي عدم مناصرة طرف منهما، إلا أن معظم فقهاء السلطان يتخذون موقفًا معاديًا لكل من يخرج على الحاكم، لأن الخروج على الحاكم سيكون أيضًا خروجًا على الفقيه، الذي ينكشف دوره الواهم كصلة بين الرب والبشر، فيحرم من السلطة ويصبح أمام أحد خيارين، إما أن يتحول إلى أمير حرب، أو ينكفئ إلى دور واعظ أكثر ما يقوم به هو دور مأذون الأنكحة أو ملقن الموتى.