وضعت الثورة السورية الكثير من الأمور والمسمّيات على محك الاستفسار والتساؤل، بل استطاعت أن تعيد تسمية عددٍ منها بأسمائها الحقيقية، وخاصة تلك التي رغب القائمون عليها في أن تكون من المسلّمات، ومن هذه المسلّمات التي كانت مفروضة على المنطقة، بقوة السلطة والرداء العقائدي، هو حزب الله وتوصيفه؛ وعليه وبعد الثورة السورية، وإيغاله في دم السوريين، أصبح أمام مرآة جديدة، ربما تكون ثلاثية الأبعاد، ولنعد إلى البدايات قليلًا.
وفق النص الحرفي لبيان صادر عن حزب الله، في 16 شباط/ فبراير 1985، فإن هذا الحزب “ملتزم بأوامر قيادة حكيمة وعادلة، تتجسد في ولاية الفقيه، وفي روح الله آية الله الموسوي الخميني، مُفجّر ثورة المسلمين، وباعث نهضتهم المجيدة”.
يَختصِر هذا البيان الكثير من البحث عن نمو وأهداف ورعاية هذا الحزب، ويُعطينا فكرة عن بنيته الداخلية، بغض النظر عن التسميات أو الهيكلية أو أسماء قياداته التي ساهمت في مسيرته. إنه -وبالمختصر- حزب عقائدي، يستمد رؤاه التنظيمية والفكرية من إطار عقائدي بحت، بداية من اسمه (حزب الله)، مرورًا بدوره “الإلتزام بتجسيد أوامر ولاية الفقيه بإيران”، إلى دوافع حركته السياسية والعسكرية داخليًا في لبنان الشقيق، وخارجيًا في الجوار، وبالذات في سورية، وفي الأوضاع الفلسطينية خلال العقود الثلاثة الماضية.
البدايات: المال الإيراني وغياب الدولة اللبنانية
استفاد حزب الله من الوضع القسري الذي مرّ به لبنان، ومن التشرذم الطائفي بسبب الحرب الأهلية، واستفاد من المشاعر العربية التي ارتبطت بالقضية الفلسطينية، كقضية محورية ومركزية، تمامًا كما استفاد منها البعث في سورية، وطوّب النضال باسمه، وأصبح يخوّن من يشاء، ويعطي صك البطولة والنضال لمن يشاء، ومن خلال استحواذه على الألفاظ العاطفية للقضية ولمقاومة الاحتلال، وفي ظل شعور عربي شعبي بضرورة إعادة الروح للقضية الفلسطينية، كانت مرحلة الثمانينيات، وبالذات بعد عام 1982، مرحلة نمو وترعرع هذا الحزب؛ حيث وجد الفرصة سانحةً؛ للفت النظر نحوه، وأعلن عن نفسه كحزب إسلامي عقائدي، يحمل هوية المقاومة، واستطاع إنهاك ومحاصرة القوى الوطنية اللبنانية والفلسطينية، وتحييدها أو تجييرها لمشروعه، وأعانه حافظ الأسد من خلال جيشه الموجود في لبنان على ذلك، إضافة إلى المال الإيراني الذي منحه القدرة؛ ليقدم الخدمات المجانية من طبية وتعليمية وغيرها للناس، المحتاجة أصلًا في لبنان، نتيجة كارثة الحرب الأهلية، وغياب مؤسسات الدولة.
من انسحاب إسرائيل من الجنوب إلى اغتيال الحريري: مفاصل في مسيرة الحزب
جاء العام 2000 بمفاجأة، كانت مفصلية في تاريخ هذا الحزب وتطوره، ألا وهي انسحاب إسرائيل من الجنوب اللبناني بقرار أحادي الجانب، ودون تنسيق، وذلك تنفيذًا لقرار مجلس الأمن رقم (425)، وتحت ضغط “حركة أمهات الجنود الإسرائيليين في جنوب لبنان”، حيث استدار -بعد ذلك- حزب الله إلى الداخل اللبناني.
في الحقيقة، تمكن حسن نصر الله، وبطريقة استعراضية ملفتة، من تجيير هذا الانسحاب لصالح الحزب، وعدّه انتصارًا يخصّه، وتناغم مع نظام الأسد في الدور الداخلي بلبنان؛ للتمدد والتمكّن، وتقاسما المهمات بينهما، وأوصلا القوى الفاعلة إلى مرحلة الدفاع عن النفس، والسعي إلى المحافظة على الحياة في أقل تقدير، لتتدرج الأمور إلى عام 2005؛ حيث شكّل اغتيال رئيس وزراء لبنان، رفيق الحريري، مفصلًا آخر لا يقل أهمية -بالنسبة لهذا الحزب- عن انسحاب إسرائيل من الجنوب، إذ انسحبت القوات السورية بجيشها وأمنها من لبنان، على إثر الاحتجاجات التي رافقت الاغتيال؛ ليصبح هو اللاعب الرئيس الذي يمتلك قوة عسكرية، خارج إطار الدولة، فحشد جمهوره، ووقف بوجه بقية اللبنانيين الذين اتحدوا في ثورة الأرز، وأعلن ولاءه -بوضوح- خارج الوطنية اللبنانية.
أتت حرب تموز 2006، كهدية جديدة قدمتها إسرائيل لهذا الحزب، وأخرجته من مأزقه، وأعطت نظام بشار الأسد في سورية ذريعة جديدة، ساعدتهم في مواجهة المحكمة الدولية التي أُنشئت بسبب اغتيال الحريري.
(الشبيحة) على طريقة (الباسيج)
بعد انطلاق الثورة السورية في آذار/ مارس 2011، أعلن نصر الله موقفًا داعمًا لحليفه التقليدي، وشكّك في الناس والتظاهرات ومطالبها، ولكن الشيء الذي لم يظهر بشكلٍ جليّ على الإعلام، هو ما تسرّب -منذ بداية الثورة- عن وجود قناصين من الحزب، يدربون عناصر النظام على القنص، وذلك لامتلاك هذا الحزب الخبرة في إرهاب الشوارع، كان هذا برعاية وإشراف خبراء إيرانيين، بحسب ما تناقلته الهمسات والألسن التابعة له، وكانت صالة الجلاء الرياضية، على طريق المزة بالعاصمة دمشق، بفندقها ومرفقاتها ومساحتها وملاعبها، مركزًا للفحص والإعداد النفسي لتلك العناصر وتدريبهم على العمليات القذرة، من التعذيب إلى القنص بحسب قدراتهم.
أسست تدريبات عناصر حزب الله، مع الإيرانيين، لتشكيل ما سمي بالدفاع الوطني، وتلته تسميات أخرى، وهو يتشابه -تمامًا- مع دور الباسيج الإيراني، وتجربته في قمع الثورة الخضراء عام 2009، والتي انطلقت في إيران، احتجاجًا على تزوير الانتخابات وفوز أحمدي نجاد.
تورّطَ حزب الله في الدم السوري بشكل لم يعد بإمكانه الانسحاب، أو التغطية على جرائمه، تحت أية ذريعة، فمن دخوله بحجّة حماية الحدود اللبنانية، واحتلاله القصير وبعض الجرود الحدودية، أكمل الحجج بالتمدد نحو العاصمة، وبقية مناطق سورية، بحجّة الدفاع عن المقدّسات الدينية، وهي عناوين استفزازية للمشاعر الدينية، وبخاصة السنّة، وعلى الرغم من ذلك، تم قتل أهم قادته العسكريين، وخسر الرعيل الأول من مقاتليه المتدربين، ولم يضع في حسبانه أن السوريين وضِعوا أمام خيارين لا ثالث لهما، إما النصر أو الشهادة، فأرواحهم وبيوتهم ومقدّساتهم وإنسانيتهم، قد استُبيحت بشكل همجي لم يسبق له مثيل، وفي الوقت نفسه، هم مقاتلون أشداء، فاجؤوا العالم في بداية عسكرة الثورة، بقدرتهم على التقدم السريع، وكسر كل تلك القوات التي واجهتهم من جيش دُرّب منذ عقود.
حصار وتجويع لتعويض الخسائر
استطاع السوريون -بأدواتهم البسيطة- من حلب إلى درعا، كسر إرادة حزب الله وداعميه، ووضعه أمام حقائق لم يعد بإمكانه التعمية عليها، بأنه حزب استعراضي، وليس حزبًا مقاومًا ومقاتلًا، فلجأ إلى الانتقام من المدنيين وحصارهم، كما في الزبداني ومضايا وداريا والمعضمية وغيرها، لتسجيل نصرٍ بأي ثمن أمام جمهوره، فكل المعارك التي كسبها في سورية، هي معارك التجويع والحصار والتي يُمهد لها طيران النظام بطريقة الأرض المحروقة، مع كثافة نيران بالمدفعية والصواريخ.
إن وضع الحزب في سورية أصبح متهالكًا إلى أبعد حد، أيضًا وضع النظام الذي جاء ليدعمه، يُعدّ الآن في غرفة الإنعاش، وقد يُعلن عن وفاته فيها في بأي لحظة، كذلك إيران وقواتها خسرت عددًا كبيرًا من عناصرها وجنرالاتها، والدور الروسي بدأ يظهر عليه الحنق والاستنزاف، بلا هدف أو نتيجة، وعلى هذا؛ فحزب الله وبعد انتهاء هذا النظام الوظيفي، سيصبح أيضًا في مرحلة البحث عن وظيفة بمسميات جديدة، قد تكلفه التسليم بولادة مرحلة جديدة في لبنان، خارج نطاق الترهيب والتهديد، وبلا أي مخالب، وربما بأسماء جديدة.