قضايا المجتمع

السويداء والثورة متاهات البدايات

دأب النظام السوري، ومنذ عام 1970، على التلاعب بأوراق المجتمع؛ لتشويش الصورة العامة أمام الجميع، ثم التحكم بها، وعمل على أكثر من مستوى داخل النسيج الاجتماعي (كالطائفي والمناطقي والعشائري، وكذلك المدينيّة والريفية، وهكذا)، وكان حظ محافظة السويداء أنها جمعت أكثر من حالة؛ ما جعلها تعطي الأسد عدّة وسائل للتغلغل من خلالها، والإمساك بمفاصل المجتمع. وأهم الأساليب التي اتبعها في سياق ذلك، هي تقديم بعض الامتيازات الفردية لشراء الولاءات.

 

مع انطلاقة الثورة السورية في آذار/ مارس 2011، وعندما صدحت حنجرة سميح شقير بأغنية يا حيف، وبدا أن الجو العام في المحافظة أخذ يميل نحو الثورة، ويشكل بؤرة قد تتوسع، وجد النظام أن عمله الحثيث طوال تلك السنوات من حكم الأسد الأب والابن، يجب استثماره بالسرعة القصوى، وذلك لأجل الإمساك بخيوط، تساعده على تثبيط الحراك المدني المعارض في المحافظة، ومن ثم إشغاله داخليًا، وعزله عن الحدث السوري اليومي وتطوره؛ فلعب على المسألة الطائفية، واستغل جزءًا من الشريحة الدينية، وعلى العشائريّة بين البدو والدروز، وعلى المناطقية بين السويداء ودرعا، وعلى المسألة العائلية داخليًا، وذلك من خلال تفاصيل صغيرة، تبدأ كإشاعة، ثم تصبح حقيقة ملموسة، بشواهد يبتكرها، فيعمّمها، ثم يتركها تتفاعل في المجتمع؛ ليرى ارتداداتها، فيعيد إنتاج أمور مُساعدة، تستجد لديه مع تلك الارتدادات، وهكذا دواليك.

 

السويداء بين التهميش والاغتراب

أخطر الأمور التي اعتمدها النظام في سورية عامةً، هو وضع المجتمع في مواجهة بعضه بعضًا؛ ففي السويداء التي تُعدّ مدينة صغيرة لمجتمع شبه مغلق على نفسه؛ نتيجة تراكمات تاريخية مختلفة، كان للإشاعة دورًا مهمًّا في خلق توتّر عام داخل المجتمع، ثم يتم تفريغه في بيئة وهميّة، تحت عنوان “الإرهاب” والمندسين” الذي ابتكره منذ بداية الحراك الثوري في سورية.

هذه البيئة هي التي أصبحت، شيئًا فشيئًا، عدوًا افتراضيًا لطائفة، جعلها النظام قلقة، وغير فاعلة وطنيًا، من خلال التضييق عليها، بدايةً من طرق المواصلات البسيطة، وصولًا إلى فرص العمل.

 

اغترب عددٌ كبير من شباب المحافظة خارج سورية، ووصل الأمر أحيانًا -في بعض القرى- أنه لم يعد يوجد فيها سوى كبار السن والصغار، وعلى الرغم من ذلك؛ فقد نشط سوق البناء نتيجة الأموال التي يرسلها المغتربون، وهذا ما أعطى صورة خادعة لنهضة افتراضية في المحافظة قبل الثورة، قابلتها أفكار كرّستها السلطة السياسية، وكان الهدف منها تحطيم الرموز الاجتماعية الفاعلة حتى على مستوى العائلات، والاستعاضة عنها بشخصيّات لا تملك من مقوّمات الحضور العام في المجتمع سوى المال الذي جعلها تتحرك بيسر، وتبني علاقات تملّق مع النظام، مضافًا إليها ما أنتجته سلطة حزب البعث من شخصيّات، سواء كان عضو فرع حزب في المحافظة، أم رئيس فرقة حزبية في قرية، وطبعًا شخصيّات تبوّأت مناصب معيّنة، إن أمنيّة أو إداريّة أو أعضاء في البرلمان، سابقين ولاحقين، دفع بهم النظام؛ ليكونوا بديلًا طيّعًا بيده، إلى الواجهة الاجتماعية على مستوى العائلات والقرى؛ بحيث استطاع هؤلاء قطع صلة هذا المجتمع بماضيه، ومرتكزاته التي كان يتغنى بها، وعُدَّت ناظمًا له ولإيقاع حركته، كمجتمع يتغذى على استذكار القيم، حتى في مراسم العزاء، وشكّلت جزءًا من تراثه وتقاليده.

 

أدوات النظام في مواجهة ناشطي الثورة 

قبل الثورة، لم تكن المؤسسة الدينيّة تعني الكثير للنظام، سوى في المناسبات العامة؛ لاستكمال المراسم حين تستدعي الأمور، ولكنه لم يهملها بشكل قطعي، بل دعّم التباينات بين مشايخ العقل الثلاثة، وساهم في تكريس كل شيخ منهم، كحالة منفردة، لها إطار لحركتها وعلاقاتها بدوائر النظام، وبالتالي؛ ترك مساحة للتنافس في الولاء ليس أكثر، ولكنه لم يهمل تفرّعات هذه المؤسسة في القرى والمناطق، كواجهات دينية محليّة محدودة في أماكن العبادة، وقد دفعها -عبر مكائده- لتدخل في لعبة التنافس العائلي في المشيخة المحليّة البسيطة، ولو في قرية نائية، تمامًا كما تصرّف في تعيين رؤساء البلديات والمجالس المحليّة، وهذا كان واضحًا؛ لأن أغلب هؤلاء متقاعدون من وظائف محددة، بعضها أمني وحزبي.

 

عندما انخرط الحراك المدني في الثورة، في أشهرها الأولى، كانت كل تلك الأدوات جاهزة لتسخيرها بيده؛ لمواجهة تمدد الثورة في المحافظة، ووضَع العائلي والديني والاجتماعي والحزبي في مواجهة الحراك الثوري، وقد استطاع العائلي والديني أن يؤثرا على الأُسر، ثم وجد مثقّفو المحافظة وسياسيّوها، وشبابها الثائر أنفسهم في مواجهة إشاعات، تشوّش على تشكيل رأي عام؛ لتوجيه المواجهة نحو نظام، وأصبحت الأحاديث العامة، عوضًا عن أن تعرّي تصرفات وجرائم النظام، تنشغل باتجاه: هل هي ثورة إسلامية أم سورية، وهل ستقمع الأقليّات، أم إنها ضد النظام، وهل أهل درعا السنّة، سيحتلّون السويداء، ويطردون الدروز، ويستبيحون ممتلكاتهم، أم لا، وهكذا تمت محاصرة مظاهرات الناشطين، ليس لأنها ضد النظام، وإنما لكونها تيسّر الأمر على “أعداء” المحافظة الوهميين، هذا الكلام لم يكن بسيطًا أو مزحة عابرة، وإنما حالة مشت كالنار في الهشيم، عبر أدوات النظام التي ذكرناها آنفًا، وبدا هذا المجتمع الذي تخلّص من الأمية، منذ أكثر من عشرة أعوام قبل الثورة، وفيه عدد كبير من الشهادات الجامعية، بدا وكأنه أميّ في تفاصيل سورية، وهي أساس ما اشتغل عليه النظام؛ بحيث أصبحت مناطق سورية كلّها غريبة عن بعضها، والسوريون أميّون في معرفة شؤون وشجون بعضهم.

 

بين نظام يملك أدواته ومعارضة لا حول لها

عندما تهكّم الشيخ عبد السلام الخليلي، بإحدى خطب الجمعة، في درعا، على سلطان الأطرش الذي يعدّه الدروز رمزًا وطنيًا، وكذلك ما قاله حول نساء السويداء، كان أوّل من لفت إلى الموضوع أمام الرأي العام، بلغة الأسف أن هذه هي الثورة، هو معارض مقيم في فرنسا، من خلال لقاء تلفزيوني، الخطبة التي استدعت أن يُصدر رجال دين -من درعا- بيان إدانة واستنكار لها، لكن أحدًا لم يستطع إيقاف تداعياتها الداخليّة التي استغلّها النظام، وأخذ يساعد في تداولها عبر الهواتف المحمولة في أرجاء المحافظة، ومن هذه الأمثلة الكثير الذي فيه من البساطة ما لم يتوقع أحد أن مجتمعًا سيصدّقُها؛ وإذ بها تصبح منطلقًا لإشاعات جديدة، ولأجل هذا، أُعيد تقييم عمل المؤسسة الدينية في المحافظة، على ما يبدو، من قبل الأجهزة الأمنيّة، وتم استنفارها؛ لتصبح ذراعًا مهمة في توجيه الرأي العام، نحو ذلك “العدو” الذي تم تصنيعه؛ فصدّقته أغلبية الناس أو تعايشت معه واستراحت، عادّةً أن ما قدّمه النظام خلال حكم الأسد، مكتسباتٍ اجتماعيّةً وتعليميّة، وحتى ماديّة، وإن كانت من جهد المغتربين.

 

تلك التفاصيل الصغيرة، أدخلت شباب السويداء الثائر في دوامة إقناع مجتمعهم، بأن الثورة ليست كما يتم تصويرها، وأن الجانب الآخر هو شريك في الوطن، وأن فساد وجرائم النظام هو المحرك للثورة، ولكن أدوات النظام، وعلى الرغم من ثقة الناس الداخليّة بأنها فاسدة، كانت هي صاحبة الحضور الأقوى، ومصدر المعلومة التي ترضي المشاعر، وإن كانت كاذبة؛ فانتقل عمل شباب المحافظة وناشطيها، من تدعيم الحراك الداخلي، إلى الإغاثة ومساعدة النازحين، وتقديم ما يمكن أن يساعد الحراك الثوري في مناطق سوريّة أخرى، يستطيعون الوصول إليها.

 

ساعدت الحواجز المبكرة التي أنشأها النظام، على مداخل المحافظة وطرقها الرئيسة، في زيادة عزلة المحافظة، ولاسيّما أنها محافظة غير حيويّة، بسبب موقعها الجغرافي. وعندما دفع النظام الثورة إلى التسلّح، وغاب الأفق السياسي العام، وتشتت المعارضة السياسية بين أقطاب غير منسجمة أصلًا، كانت الأرضيّة الاجتماعيّة -في السويداء- قد أصبحت جاهزة للنأي بالنفس، ولم تتوافر في يد كادرها المثقف أي وسائل دعم، مادية أو معنوية، لقلب المعادلة.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق