هموم ثقافية

شرف المحاولة

في وجهين منها على الأقلّ، تبدو شخصيّة “دون كيخوته” التي رسمها ميغيل ثربانتس (1547-1616)، في روايته الشهيرة، قد فُصّلت تفصيلًا على مقاس مثقفنا العربي:

الوجه الأول، أن العديد من المثقفين العرب؛ إذ جهدوا واجتهدوا وأبدعوا، منذ عصر النهضة إلى اليوم، إنما كانوا أشبه بمن «ينفخ في قِربة مقطوعة»، لا لضيقٍ في أنَفَاسِهم، ولا لانعدام صدقٍ في محاولاتهم، أو لتقصيرٍ في أدوراهم (كما يحلو لبعضهم الاجتهاد!)، وإنما لأن القِربة مقطوعة، ولأن الثقافة ليست هي العامل الأول والحاسم في إصلاحها.

 

وبسبب هذا التشابه، اختار ممدوح عدوان لإحدى دراساته عنوانًا ذا دلالة صريحة: «نحن دون كيخوته»، كما بيَّنت غادة السمان في شهادة لها أن «ليس بيننا من لم يقاتل طاحونة هواء واحدة، لعله اخترعها بنفسه، ولعلها تقطن أعماقه… ولعله بحاجة إلى مقاتلتها؛ ليظل مثاليًا ونبيلًا وهزليًا وإنسانيًا!» وعلى النحو ذاته، عاود العديد من المثقّفين الإشارة إلى الشخصيّة الروائيّة، مؤكّدين شدّة العلاقة بها، ودرجة التشابه معها.

 

والوجه الثاني، أنه ما كان لأولئك المثقّفين العرب، ماضيًا وحاضرًا على السواء، أن يتوقّفوا عن بذل فنّهم وأدبهم وفكرهم؛ لفتح آفاق الجمال والمعرفة، وتنوير الناس، وحثّهم على النهوض، لمقاومة الاستبداد، ورفع الظلم، وتحقيق العدالة، ووقف التدهور المتزايد في واقعنا.

 

وما كان للمثقّفين ذلك؛ لأنّ من شأنه وأد حلمهم، ونزع شرف المحاولة عنهم، وسلبهم مبرر وجودهم، وانصياعهم للطغيان والإفقار والتخلّف والرداءة والبشاعة؛ الأمر الذي حضّهم على المحاولة تلو الأخرى، حتى أن العديد منهم دفعوا -من جرّاء هذا- ثمنًا باهظًا من عيشهم، وحريتهم، ووجودهم في بلدانهم، بل وحياتهم أحيانًا.

 

وبين خطّين متوازيين، ظلَّ أولئك المثقّفون يتقاطرون؛ من دون أن يفارقهم الشعور الدفين بالعبث، وبوجه الشبه مع دون كيخوته، وكذا من دون أن يكفّوا عن المحاولة عمّا مضوا في دربه، منذ عصر النهضة –أيضًا- إلى يومنا الحاضر.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق