كثيرة هي المؤشرات والدلائل التي تقودنا للاعتقاد بأن فرص السلام في اليمن تكاد تكون معدومة بعد فشل محادثات الكويت، وأن دول الاعتدال العربي، سائرة باتجاه خوض المزيد من المواجهات لكسر التعنت الحوثي. فالمطالب الحوثية في مفاوضات السلام اليمنية في الكويت لم تكتف بتسديد الضربة القاضية لها عندما رهنت متابعة اشتراكها في المفاوضات بضرورة التوصل إلى حكم توافقي يشمل رئاستي الجمهورية والحكومة كشرط مسبق قبل الاتفاق على المسائل الأخرى، بل جاء هذا الموقف على إيقاع تجدد المعارك بصورة مثيرة بين قوات الحوثيين صالح والقوات الحكومية تساندها المقاومة الشعبية. ولم تصل كل مبادرات دول التحالف العربي بإعلان متكرر لوقف النار إلى أي نتائج إيجابية ملموسة مع المتمردين، ذلك أن هؤلاء يسكنهم هاجسٌ طاغٍ عبثي ألا وهو الإطاحة بالرئيس الشرعي للبلاد عبد ربه منصور هادي وتشكيل حكومة جديدة للحوثيين وصالح فيها الأرجحي المقبل بل أكثر لحد الهيمنة وأن أي تسوية سياسية يجب أن تشمل مسبقًا هذه المطالب التعجيزية، أما الجانب الأمني فهو قابل للنقاش.
وكأن تحالف الحوثيين صالح ينفذ حرفيًا ما سبق أن صدر على لسان السيد حسن نصر الله في غير مناسبة بأن الرئيس هادي لم يعد رئيسًا لليمن وأن الأمر الواقع الذي فرضه الانقلاب أصبح جزءًا من أي تسوية يمنية مرتقبة. لقد شهدنا كيف عمد التحالف الانقلابي إلى تشكيل ما سمي (المجلس السياسي) لحكم اليمن غير عابئ بالقرار الدولي 2216.
ويبدو من الجلي بمكان أن الغاية من تشكيل هذا المجلس السياسي العتيد هو فرض شروط الحوثيين صالح على أي تسوية سياسية للأزمة وأن مقترح الثلث المعطل والمناصفة قد جرى تسريبها لكسب الوقت في مفاوضات الكويت.
وكان الأكثر إثارة للريبة تلك التسريبات الحوثية الزاعمة بأن يلتزم الحوثيون بضبط النفس وعدم اللجوء إلى الأعمال العسكرية على طول امتداد الحدود اليمنية السعودية التي تبلغ 1400 كلم. وكأن المقصود جر المملكة إلى مفاوضات ثنائية مع المتمردين وإظهار الرياض وكأنها أصبحت طرفًا في نزاع مسلح مع اليمن في الوقت الذي يعلم المجتمع الدولي وفي جملته الجامعة العربية أن الصراع القائم في اليمن هو بين سلطة شرعية من جهة وانقلابيين ماضين في اغتصاب السلطة من جهة أخرى. أما عاصفة الحزم التي التزمت بحدود التدخل الجوي فقد كانت قرارًا صدر عن قمة شرم الشيخ عام 2015 العربية وإن كان الدور السعودي في صدوره كان وازنًا.
من المسلم به أن دورًا كبيرًا في التمهيد للانقلاب الحوثي صالح ومد المتمردين من دون توقف مع اشتعال الحرب تضطلع به طهران مباشرة بالعتاد والذخيرة وما استطاعت تمريره للانقلابيين سواء من البحر (مرفأ الحديدة ومرفأ ميدي خصوصًا) ومن الجو (مطار صنعاء وقد أصبح بيد الانقلابيين) وكذلك عبر الحدود الشرقية الشاسعة لليمن في حضرموت.
وكان يدور على الدوام في مخيلة الحرس الثوري الإيراني أنه علاوة على تزويد الانقلابيين بالأسلحة الروسية بالإمكان جر موسكو في اليمن إلى تدخل عسكري مباشر على غرار سوريا، إلا أن الحسابات الروسية حيال الإغراءات الإيرانية هناك ظلت تأخذ في الاعتبار النتائج الوخيمة لهذه المغامرة. فموسكو كانت تتجنّب أي مواجهة مع السعودية في اليمن وذلك انطلاقًا من مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية والتي ترافقت مع تقارب ملحوظ بين موسكو والرياض في الكثير من المسائل ذات العلاقة بالمنطقة العربية باستثناء الملف السوري المضني وتحديدًا مصير بشار الأسد.
لذا تتفرّد طهران بالتدخل في الشأن اليمني، والأدلة على ما نقول كثيرة، ظانة انه بوسع أدواتها الحوثية وحليفهم صالح تحويل حرب اليمن الى حرب استنزاف تستهدف المملكة ذلك أننا نرى بوضوح انه لولا الموقف السعودي الصلب وقرار المواجهة مع تعاظم التدخل الايراني في الشؤون العربية وبالأخص في اليمن وكان الوضع العربي مدعاة للرثاء.
فالرياض تتحمّل وحدها القسط الأكبر من الدعم العسكري واللوجستي بل الإنساني الذي يحتاجه اليمن المنكوب باستيلاء الانقلابيين على السلطة، وتلك المعارك المحتدمة على أرضه، وتشكل تعز وحدها بؤرة ملتهبة لا تتوقف فيها المواجهات مع الانقلابيين. ومن المشرف حقًا ان تعمد الرياض بسخاء لا نظير له بتوزيع المساعدات على اليمنيين، ومن المشرف حقًا أن تعمد الرياض بسخاء لا نظير له بتوزيع المساعدات على اليمنيين المنكوبين لدرجة أن جانبًا مهمًا منها يصل إلى أولئك السكان الخاضعين لقبضة الانقلابيين.
إن سياسة المراوغة والتلكؤ والمماطلة التي يعتمدها الانقلابيون الحوثيون ثم اللجوء إلى ضربات مسرحية مدوية كإنشاء المجلس السياسي الذي يحلو لهم تصوره قادرًا على حكم اليمن ثم محاولة فرض إملاءات قسرية كفرض رئيس بديل عن الرئيس هادي وتشكيل حكومة إيرانية الولاء ستبوء بالفشل. لأن الحل الوحيد العقلاني القابل للتنفيذ هو العودة الى المبادرة الخليجية وتطبيق القرار الدولي 2216، فأما يمن آمن تحكمه سلطة وفاقية تضم جميع الأطراف أو تستمر الحرب إلى ما لا نهاية.
مقابل تعز المدينة المنكوبة المحاصرة والمحررة في غالبيتها والتي تجد اهلها بحاجة ماسة الى الغذاء والدواء والاستشفاء والماء والكهرباء، في الطرف الآخر من المنطقة العربية مدينة أخرى تستمر فيها نيران الحرب الدموية القاتلة التي أعدها لها بشار الأسد. فبعد مضي ثلاث سنوات من الغارات الجنونية حيث فتحت على أهلها أبواب جهنم من قنابل محرقة وبراميل متفجرة ومدفعية ميدان وأشكال لا تحصى من الهواوين تواجه المدينة الحصار.
لقد استحضر الأسد افتك السلاح الجوي الروسي يتابع بواسطته الحرب على الإرهابيين حيث لا إرهابيين، وما هب ودب من الميليشيات المذهبية يتزعمها الحرس الثوري الإيراني يرفده حزب الله اللبناني ولواء أبو الفضل العباس ومقاتلون حضروا من أواسط آسيا معبأين بثارات مرضية عمرها مئات السنين، وذلك لإسقاط المدينة مجددًا في قبضة الديكتاتور. لا بل في حلب يعاود الأسد فعلته الشنيعة اياها.
باستخدام السلاح الكيماوي كما جرى في إدلب منذ أيام وكما في السابق في الغوطة الشرقية وخان العسل.
الخبراء والمراقبون وكل العارفين بدقائق وتفصيلات الوضع السوري يعلمون أن حصارًا كهذا قد يمتد لسنوات طويلة وأن حربًا داخل المدينة الكبيرة نفسها قد يتحول إلى حرب محاور واقتحامات محدودة بين حلب الشرقية الموالية للثورة وحلب الغربية التي تخضع للنظام الأسدي وحلفائه. ولا تبدو قوى النظام بهذا الثقل العسكري الذي يزعمه ذلك أنه بعد مضي يومين من سقوط طريق الكاستيلو الاستراتيجية ما لبث الثوار أن حققوا انتصارات نوعية في ريف حلب ليصبحوا قادرين على إحداث ثغرات من جهة غرب المدينة وجنوبها. ولعل ذلك هو السبب الذي دفع بالأسد لاستخدام السلاح الكيماوي في إدلب موقعًا العديد من الضحايا.
بعد حادثة إسقاط المروحية العسكرية الروسية التي أصابت الكرملين بصدمة بدأت تطرح وفي الحال تساؤلات روسية فيما إذا كانت قد وصلت دفعة أولى من السلاح الأميركي النوعي. ويعمد الروس للحديث عن ممرات آمنة تتيح للراغبين من سكان حلب الشرقية سلوكها، في الوقت الذي يستمر فيه الطيران الحربي الروسي بتنفيذ طلعات شبه متواصلة.
المفارقة الكبرى التي يواجهها المجتمع الدولي هي أن أول آب هو موعد تطبيق البند المتعلق بالانتقال المرحلي السياسي والذي يكتنفه الكثير من الغموض لا سيما أن دور الأسد فيه ولو من قبيل المواكبة غير واضح بتاتًا. أعادت المعارضة في خضم هذه التطورات تجميع صفوفها معلنة تمسكها بالانتقال السياسي ووجوب رحيل الأسد. وكان وزير الخارجية السعودي عادل الجبير حازمًا الأسبوع الماضي بتكرار تمسكه برحيل الأسد.
في الوقت الذي تدور المعارك ضارية في حلب وريفها تتطلّع الأنظار ثانية نحو جنيف حيث من جهة يدعو وزير خارجية أميركا الجميع لضبط النفس ولا يجد دي ميستورا غضاضة في استئناف المفاوضات على إيقاع طلعات الطيران ودوي المدافع.
من تعز إلى حلب يتجلّى الصراع الإقليمي والدولي في أبلغ تعبيراته.