وقف بشار الأسد ذات يوم، أمام رؤساء وأعضاء المنظمات الشعبية والنقابات المهنية وغرف التجارة والزراعة والصناعة والسياحة، ليعلن أن “سورية لمن يدافع عنها أيًا كانت جنسيته”، في معرض شكره لكل الدول التي وقفت إلى جانبه، ولا سيما إيران وحزب الله والمليشيات العراقية والباكستانية والأفغانية الشيعية، وبالطبع، يضاف إليهم الروس الذين دخلوا المعركة لنصرته ودعمه.
هذا التعريف “الأسدي”، يضعنا أمام تعريف جديد للهوية السورية، يخرج من دائرة الانتماء إلى الجغرافيا والثقافة والوطن، إلى تعريف فضفاض، لا يهم معه أن تكون مولودًا على الأرض السورية، من أبوين سوريين، ويكفي أن يكون هذا (الشخص) معارضًا؛ ليتمّ إقصاؤه واجتثاثه، بل ونزع الهوية كاملة عنه، إنْ كان مقاتلًا ضد قوات النظام وميليشياته والمليشيات الأجنبية المتحالفة معه، فالهوية (السورية) في معناها (الأسدي) تنتمي، أو تشمل من يقف مع النظام ويقاتل إلى جانبه، أما الآخر، المعارض أو الثائر، فليس أكثر من “تكفيري” أو “إرهابي” أو “خائن”.
لقد استُخدم مصطلح (تكفيري) في العراق أولًا، لنعت كل من يقف ضد الشيعة، وهو مصطلح ملغوم، مُحمّل بإرث طويل من الدم، ثم انتقل هذا المصطلح إلى سورية بعد ذلك لوصف المقاتلين الإسلاميين الذي يقاتلون نظام الأسد، واليوم يستخدم على نطاق واسع في الأردن السعودية ومصر ولبنان وليبيا وغيرها من الدول، وهو وصف ينزع إنسانية الموصوف ويخرجه من الدائرة الوطنية ونبذه بوصفه “قاتلًا” لا مجال لقبوله في المنظومة الاجتماعية، وبالتالي (شيطنته)؛ ما يفتح الباب لقتل هذا (التكفيري) دون أن يستجر أي “وخزة من ضمير، أو ألم في الشعور”؛ لأن هذا التكفيري ليس إنسانًا، بل ربما “أقل من صرصور” وقتله لا يستوجب الشعور بالألم.
وإذا كان قتل (التكفيري) فعل جيد من وجهة نظر من صكوا هذا المصطلح، فان نزع الجنسية عنه، أو قتله معنويًا بإخراجه من دائرة (الهوية) أسهل، ولعل العنوان الذي خرجت به جريدة “الوحدة” التي تصدر في اللاذقية، قد لخص الموقف “ليكن شعار المرحلة: من يخون الشعب وثقته.. يخون الوطن.. ومن يخون الوطن.. تسقط عنه الهوية ويسقط عنه الانتماء”، والوطن يعني -هنا- حصريًا “الأسد ونظامه”، استتباعًا لشعار “الأسد أو لا أحد”، والأسد أو نحرق البلد” أو “سورية الأسد”.
اختلط مصطلح (التكفير)، وامتزج وتشابك وتداخل مع مصطلحي (الإرهاب والخيانة)، وفي حين استخدم مصطلح (الخيانة) لأغراض داخلية، فإن مصطلح (الإرهاب)، يستخدم لأسباب خارجية، ومن هذه الزاوية، فإن نظام الأسد لا يخوض معركة ضد الشعب السوري، وإنما يخوض حربًا ضد مجموعات من “التكفيريين” الإسلاميين، و”الإرهابيين” الوطنيين، وهنا تتسع الدائرة؛ لتشمل فصائل الجيش الحر والفصائل الوطنية الأخرى، التي لا يمكن وصمها بالتكفيرية، بما أن هذا المصطلح لا ينطبق عليها لعدم إسلاميتها الجهادية، وبالتالي، يلجأ نظام الأسد إلى استخدام مصطلح (إرهابي)، الذي يخدمه خارجيًا، ويحوله من نظام مجرم، يقتل الأبرياء ويرتكب المجازر ويفتك بالشعب، إلى شريك عالمي في ما يسمى (الحرب على الإرهاب)، وبهذا يندمج في “منظومة الحرب الدولية على الإرهاب”، حتى لو قتل الشعب السوري كله، ويصبح شريكًا فعالًا في “المجتمع الدولي المحارب للإرهاب”.
هنا، يتخذ الفرز بُعدًا حقيقيًا على الأرض، بين نظام يخدم المجتمع الدولي ويمثل الحد الأدنى من “الاستقرار والدولة والضرورة”، وبين المناوئين الذين حولهم النظام، ومعه دول عظمى، من الشعب السوري إلى مجموعات من (التكفيريين والإرهابيين والخونة). وهو فرز وجد ترجمة، نجح خلالها نظام الأسد بتفجير مجموعة من الهويات الفرعية، على أساس (مع وضد) النظام، وأصبحت الثنائيات هي سيدة الموقف، فـ “الوطني المؤمن” ينتمي بالضرورة لنظام الأسد، و”الخائن التكفيري الإرهابي” ينتمي للمعارضة.
هذا النجاح الذي حققه نظام الأسد لم يأت من فراغ، فالكيانات العربية التي أسسها الاستعمار، ما بين الحرب العالمية الأولى والثانية، بما في ذلك سورية، بُنيت على أساس من الخواء (الهوياتي) ما أدى إلى فشل بناء هوية جامعة مُحدَّدة المعالم والتعريف، فهذه الكيانات لم تؤسس بناءً على تقسيمات طبيعية، أو نتيجة تطور طبيعي للشعوب، وأجبر الأنظمة الحاكمة بما فيها سورية، الجميع على الصمت، ووصم من يطرح مسألة الهوية في سورية بأنه “خائن أو متآمر” يعمل على “تفتيت الوحدة الوطنية”، ما حوّل (الهوية) إلى مفهوم هلامي غير محدد الملامح، على الرغم من أن حدود الكيان السياسي السوري الحديث المفروضة بحد السيف الاستعماري، تضم خليطًا من الهويات الفرعية المتفجرة، غير المعرفة هي الأخرى.
لا شك في أن الثورة السورية كشفت عن مقدار الاختلال والاختلاف والتباين (الهوياتي)، والتي تحولت إلى (مساطر) للقياس الاثني والعرقي والديني، وهي مساطر مزقت المجتمع والتكوينات الديموغرافية بشاعة التقسيم الجغرافي نفسه، الذي فرضه الاستعمار. ولم يكن الأمر يحتاج إلى أكثر من تمرد أو ثورة على النظام الحاكم، حتى تنفجر هذه الهويات الفرعية، على شكل براميل متفجرة، ومجازر جماعية، وفرز بين المناطق، وفجر معها الهوية الجامعة المُتخلية التي لم تكن موجودة أصلًا، بل كانت وهمًا فرضه الصمت والتخدير وقانون القوة، وهو وهم تبدد؛ ما يستدعي الحاجة إلى البحث عن هوية سورية جامعة تُبنى على أسس جديدة، ويطرح البعض الحاجة إلى “ترميم” الهوية، لكن هذا المصطلح لا يفي بالغرض، فـ “الترميم” إنما يطال شيئًا أو مفهومًا ناجزًا، وللأسف، فإن الثورة السورية أثبتت أن هذه الهوية غير ناجزة حتى الآن.