قد يعتقد المرء أنّ السوريّين محكومون بالاختيار البغيض بين بشار الأسد والجهاديّين، لكنّ الاختيار الحقيقي الذي قاتل من أجله السوريّون هو بين استبدادٍ عنيف من جهة، وديمقراطيّة على مستوى الفئات الشعبيّة من جهة أخرى.
عندما كنّا نقابل بعض الناشطين والمقاتلين، في أثناء فترة إعدادنا لكتابنا “البلد المحترق، سوريّون في الثورة والحرب”، اكتشفنا بأنّ الخيار الديمقراطيّ كان حقيقيًّا، وذلك، على الرغم من الصعوبات التي يواجهها خيار كهذا، فإن كانت الحياة تستمرّ، في المناطق المحرّرة، من سيطرة كلٍّ من نظام الأسد، والدولة الإسلاميّة في العراق والمشرق، وعلى الرغم من تعرّضها للقصف العنيف؛ فإنّها تستمرّ، بفضل المجالس المحليّة المنظّمة بشكل ذاتيّ، التي تقدّم الخدمات والمساعدات.
فعلى سبيل المثال؛ يدير أحد تلك المجالس بلدة داريّا، وهي الضاحية الواقعة غرب مدينة دمشق، وتعاني من حصار تجويع مستمرٍّ، منذ أربع سنوات. يقوم أعضاء ذلك المجلس، البالغ عددهم 120 عضوًا، باختيار المسؤولين التنفيذيّين، بالانتخاب الدّوري، كلّ ستّة أشهر، أمّا رأس المجلس فيتمّ تعيينه بانتخاباتٍ عامّة. يسيّر مجلس داريّا مدارس، ومشفًى، ومطبخًا عموميًّا، وينظّم شؤون الانتاج الزراعي المدني، كما يشرف مكتبه، على ميليشيّات الجيش السوريّ الحر،ّ التي تدافع عن البلدة . ويقوم الصحفيّون من أهل داريّا، وسط القصف، بإصدار جريدةٍ تُدعى “عنب بلدي”، التي تروّج لمقاومة اللّاعنف. في بلد كان يعرف سابقًا بـ “مملكة الصمت”، يوجد الآن ما يزيد على ستّين صحيفةٍ مستقلّةٍ، وكثير من المحطّات الإذاعيّة الحرّة.
في كلّ مرّة يخفّ فيها القصف، يعود الناس إلى الشارع براياتهم، وتشير التظاهرات التي شهدتها محافظة إدلب مؤخّرًا، ضدّ جبهة النصرة، إلى أنّ توق السوريّين إلى الديمقراطيّة أقوى ممّا مضى.
عندما تتوافر هناك إمكانيّة، يتمّ انتخاب تلك المجالس بشكلٍ ديمقراطيّ، وقد شكّلت تلك الظاهرة أوّل انتخابات حرّة خلال نصف قرن.
قام عمر عزيز، الاقتصادي السوري المنتمي إلى المدرسة الفوضويّة (الأناركيّة)*، بتزويد المجتمع المحلّي بأصل الفكرة؛ فخلال الشهر الثامن من الثورة، نشر ورقة تنصح بالقيام بتشكيل مجالس، يقوم فيها المواطنون بترتيب أـمورهم وتنظيمها، بمعزل عن الدولة الاستبداديّة، كما ساهم عزيز بتشكيل أول جسم تنظيمي في ضواحي دمشق.
توفّي عمر عزيز في سجون النظام في عام 2013، قبل عيد ميلاده الرابع والستّين بشهرٍ واحد، لكن في ذلك الحين، كانت المجالس المحليّة قد انتشرت، على امتداد البلاد كلّها. كان بعض أعضاء تلك المجالس ناشطًا، سابقًا، في تشكيلات الثورة الأوّليّة؛ فقد كانوا في البدء مسؤولين عن تنسيق التظاهرات وعن الإعلام، ومن ثمّ أصبحوا مسؤولين عن إيصال المساعدات، والخدمات الطبيّة، أعضاء آخرون كانوا ممثّلين لعائلاتٍ، أو قبائل بارزة، أو مهنيّين تمّ اختيارهم؛ لامتلاكهم مهاراتٍ عمليّة محدّدة.
تعمل المجالس، في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، بشكلٍ سريّ، أمّا في المناطق المحرّرة فتقوم بعملها بشكلٍ علنيّ. كانت تلك تجارب قويّة لكنّها هشّة؛ حيث تعيق الفئويّة عمل بعضها، بينما تعرّض بعضها الآخر للتنكيل والمسح من الوجود من جانب الجماعات الجهاديّة. في منبج، وهي المدينة الشماليّة، التي كانت تتباهى مرّةً بأعضائها الستّمئة المشرّعين، وبأعضائها العشرين التنفيذيّين، وبجهاز شرطتها، وبأوّل نقابة عمّال مستقلّة في سوريّة، لكنّ الدولة الإسلاميّة في العراق والمشرق قامت بالسيطرة على مخازن الحبوب فيها، وتمّ طرد الديمقراطيّين منها. تُسمّى منبج اليوم بـ “لندن الصغرى” وذلك لانتشار الجهاديّين الناطقين باللغة الإنكليزيّة البريطانيّة فيها.
يبدو أنّ المجالس، في بعض المناطق، تشير إلى تفتت سوريا عوضًا عن إشارتها إلى بدايةٍ جديدة، حيث يسمّيها “كريستوف رويتر” بـ “ثورة المحلّيّين” عندما يصفها بـ “جمهوريّات القرية”، كقرية “كورين” في محافظة إدلب، والتي تملك محكمتها الخاصّة، ومجلسها المكوّن من عشرة أشخاص، لكنّ عمر عزيز، كان يرنو الى مجالس تصل الناس بعضهم ببعض، على مستوى مناطقيّ ووطنيّ.
تقوم مجالس إقليميّة ديمقراطيّة، الآن، بالعمل في الأجزاء المحرّرة من حلب وإدلب ودرعا، وفي منطقة الغوطة، قرب دمشق، لم يكن لقادة الميليشيّات الحق في الترشّح، وعلى الرغم من تمتّع المقاتلين بذلك الحق، لم يفز بالمقاعد إلّا المدنيّون.
في المناطق السوريّة الثلاثة ذات الأغلبيّة الكرديّة، والمعروفة باسم روجافا، يسود نظامٌ مماثل، مع أنّ المجالس هناك تسمّى بـ “كانتونات”. تُعدّ تلك الكانتونات، من جهة، أكثر تقدّميّةً من مثيلاتها في الأماكن الأخرى – تخصّص 40 في المائة من مقاعدها للنساء-، لكن من جهةٍ أخرى؛ فإنّها تعمل بدلالة إطار أوسع منها: حزب الاتّحاد الديمقراطيّ PYD، الذي يتحكّم تحكّمًا أحاديًّا بالتمويل، والسلاح، والإعلام.
إنّ الأعضاء المنتخبين في تلك المجالس، هم الممثلون الوحيدون للسوريّين، وينبغي أن يكونوا مكوّناتٍ مفتاحيّة في أيّ حلٍّ مستقبليّ، وفي مستقبل سوريا ما بعد الأسد، قد تسمح الديمقراطيّات المحلّيّة، للمجتمعات المُستقطبة بالعيش المشترك، تحت المظلّة السوريّة.
في إمكان البلدات أن تقوم بتشريعاتها المحلّيّة، وفقًا لمركّباتها الثّقافيّة، والديموغرافيّة، ومزاجها العام؛ فالبديل لمزيد من السلطة المحليّة، سيكون فرض المزيد من الحدود، المزيد من التطهيرات العرقيّة، والمزيد من الحروب، تستحقّ تلك المجالس، على أقلّ تقدير، الاعتراف السياسيّ من الولايات المتّحدة الأميركيّة وغيرها، وعلى أعضاء تلك المجالس أن يكونوا حاضرين، في فريق المعارضة المفاوض، في أيّ محادثات. كما تستحقّ تلك المجالس الحماية؛ حيث يقوم الأسد بقصف المدارس، والمشافي، والمخابز، والوحدات السكنيّة، التي تحاول المجالس تخديمها. لو توقّف القصف؛ فلن يقتصر عمل تلك المجالس، على المحافظة على البقاء فحسب؛ إنّما ستستطيع الالتفات إلى، والتركيز على، بناء المواطنة السوريّة، والذهاب إلى أبعد من ذلك، في اتّجاه بناء المؤسّسات الشعبيّة.
كما أظهر لنا الغزو، الذي قادته الولايات المتّحدة الأميريكيّة في العراق؛ فإنّ الناس أنفسهم هم الوحيدون، القادرون على بناء ديمقراطيّتهم. واليوم، وفي ظلّ أصعب الظروف، يمارس السوريّون الديمقراطيّة، ويبنون مؤسّساتهم الخاصّة بهم، وجهدهم ذلك لا يتوافق مع رواية الأسد، أو رواية الدولة الإسلاميّة في العراق والمشرق، السهلة، لكنّنا نادرًا ما نتنازل، لنلاحظ ذلك.
*روبين قصّاب حسن كاتب مشارك في كتابة كتاب “”البلد المحترق، سوريّون في الثورة والحرب”
* فلسفة سياسية تعارض السلطة في تسيير العلاقات الإنسانية، تسمّى اللا سلطوية، يدعو أعضاؤها إلى مجتمعات من دون دولة، مبنية على أساس جمعيات تطوعية غير هرمية.
عن موسوعة الويكيبيديا بتصرف، الرابط:
https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%84%D8%A7%D8%B3%D9%84%D8%B7%D9%88%D9%8A%D8%A9
عنوان المادة الأصلي بالإنكليزية | Against all odds, village republics take hold in Syria |
اسم الكاتب بالعربية والإنكليزية | روبن ياسين قصاب Robin Yassin-Kassab |
مصدر المادة أو مكان نشرها الأصلي | موقع The National الالكتروني |
تاريخ النشر | 25 تمّوز/ يوليو 2016 |
رابط المادة | |
اسم المترجم | أنس عيسى |