مقالات الرأي

إبراهيم اليوسف وسياجات العقل الأيديوتَوالُدي

على صخرة اليقين يرتاحُ موج السؤال ويتبدد، يعود إلى واحدةٍ من أكثر مقاربات الإنسان راحةً وكسلا: اليقين شريعة الباحثين عن الراحة، كبديلٍ عن تعب البحث والشك والتفكير. للتمهيد ننطلق من فكرتين اثنتين: الفكرة الأولى منهجية، وهي أن العقل الحديث يتميز، في كل تجلياته وممارساته، بالمرونة والتخلُّق اللذان يؤمّنان له الحد الأدنى من الرشاقة الفكرية اللازمة للخروج من الانغلاق؛ ويتميز العقل الدوغمائي بأنه ضحية انحرافاته الأسطورية التاريخية، والأسطورية الأيديولوجية، التي تسوقه إلى حالة “اللاتعيين”؛ فيكون اصطدامه بالواقع متكررًا من دون انقطاع. والفكرة الثانية فلسفية تاريخية، وهي أن لكل حدثٍ ماضٍ بُعدان، الأول بعدٌ ملموس، يمثل الجانب الواقعي الخبري، ويختص بتوصيف ما حصل؛ والثاني بعدٌ خيالي، يمثل الجانب النفسي للراوي والناقل. البعد الأول “محفوظ”، والبعد الثاني “مفهوم”.

نستطيع الحكم -ولكن بحذر- بأن المجتمعات التي لم تعش ثورات فكرية صاعدة، وثورات علمية معرفية، يمكن أن تعرف التاريخ ولكن لا تشعر بتاريخيته (في عام 1979 أقدم إبراهيم اليوسف على قتل مجموعة من طلاب مدرسة المدفعية في حلب، أغلبهم من العلويين). إلى هنا -وباختصار- تمّ الخبر المعروف والمحفوظ. في البعد الثاني لهذا الخبر نجد العديد من الروايات، بين القول ببطولة ووطنية الرجل ونُبل الفعل، مرورًا بتجريم الفعل ولكن تفهم دوافعه، وصولًا إلى تجريمة وتخوينه وعدم تفهم دوافعه؛ وكل رواية تدعي صحتها المطلقة. في الحقيقة لا توجد قضية صحيحة بالمطلق، أو خاطئة بالمطلق، ولكن توجد نسبية تجعل من جميع الأحكام تحتمل صفتي الخطأ والصواب في آن معًا.

هذا الحضور الدائم للنسبي، هو سمة الأحرار ومنهجيتهم؛ فالتاريخ مجال الحرية، لأنه مدرسة نتعلم منها أولًا، وثانياً لأن الحرية يجب أن توجد في الذهن والوعي، ولا يصبح التاريخ تاريخًا، إلا إذا انحاز إلى الوعي وانصهر في بوتقته؛ فالتاريخ هو تاريخ الوعي البشري. إذا كانت الحرية هدفًا، فبالضرورة تكون الموضوعية منهجًا، نكون أحرارًا بقدر ما كنا موضوعيين، ونحن موضوعيون بقدر ما نحن أحرار.

إن إطلاق تسمية (إبراهيم اليوسف) على معركة تحرير مدرسة المدفعية في حلب، وكذلك معظم ردود الفعل على هذه التسمية، لا تتسم بأي نوعٍ من الموضوعية، وبالتالي؛ فإن الفعل وارتداداته -كما نعتقد- سلوكٌ يحيد عن سلوك الأحرار، وعن سلوك التوّاقين إلى الحرية. في الحالتين كليهما لغاتٌ عقائدية، تدافع عن نفسها في حروب الغموض والفوضى الفكريين، وفي الحالتين كليهما جملٌ اعتراضية، في نصٍ على نصٍ سابق جَثم، تستعيض بالأيديولوجي بدلًا من الواقعي الثوري اللابث أمام هودجٍ لا يستريح على فكرة. الحالتان كلاهما جعلتا من ابراهيم اسمًا ماكرًا لفكرةٍ رسبت في امتحان الأداء الواقعي. ونعتبر هذا الفعل -وردوده- أيديولوجي؛ لأنه صاحب حكمٍ مطلق خلفياته عقائدية -وإن اختلفت العقيدة- وفعلٌ يسمح بتوالد الحالة الأيديولوجية ونقيضها المؤدلج؛ بحيث يعيدان إنتاج نفسيها كما كانا وقت تكوينهما. تلك هي الظاهرة التوالدية (diachronic) للأيديولوجيا وللأفكار الأولى، من دون توالدية الإبداع، وهي ما أطلقنا عليها اسم “الأيدوتوالدية”. لا تدّعي هذه المقالة إنجاز التفكير الأمثل بالنيابة عن الجميع، فتقدم الرأي جاهزًا للتبني، ولكنها ترنو إلى لفت الانتباه إلى ضرورة إنجاز ما حال نقصُ رصيدِ الشك فينا دون إنجازه. ما زال أغلبنا يصرُّ على تعريف نفسه بدلالة عداء الآخر، أو بدلالة صداقة الآخر، فتضيع الذات، وتهرول متعبةً في مكانها حتى السقوط، من دون أي تقدم. لا يستطيع بعضهم، مثلًا، التعريف عن قيمه الفكرية وعن تصوراته الاجتماعية والسياسية، إلا من خلال عدائه للإسلام، وشنّ الحرب الكلامية تلو الأخرى ضد مبادئه؛ ولا يستطيع بعض الإسلاميين التعبير عن ذواتهم، إلا من خلال معاداتهم للعلمانية أو للديمقراطية أو لليبرالية أو للشيوعية. وفي الحقيقة هؤلاء جميعًا يحاولون أن يقدموا للآخرين ما لم يعد فعليًا بحوزتهم. برأينا، إن الذات تزداد رقيًا بفكرها وبحريتها بمقدار ما تزداد قدرتها على التذاوت والحوار الذي يستهدف التفهم والتفاهم، وهذا يحصل في ما يسميه يوغن هايبرماس “إرادة البحث التعاوني عن الحقيقة”. لا مستقبل لنا، مع الصلابة الأيدوتوالدية، إلا “مستقبل الماضي” حيث لن يكون فيه من جديد إلا الوجوه والأعمار. هذا العقل الأيديوتوالدي يبدو وكأنه يستغل لحظات تأزم القيم والأيديولوجيات الأخرى؛ من أجل إعادة التأكيد على صحة مبادئه وعدم المساس بثوابته وتعاليمة القديمة التي عفا عليها الزمن. العقل الأيديوتوالدي نفسه، لا يجد حرجًا في أن يعيد لقب “سلطان” في تمجيد أردوغان، مبررًا ذلك في موقفه المعادي للانقلاب على الديمقراطية! ولك أن تتوسع في تأمل مقاربات كثيرة ضمن السياق نفسه.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق