مما لا شك فيه، ان الحركة الفنية التشكيلية السورية حركة معاصرة، شأنها في ذلك شأن ـمثـيـلاتها في العالم العربي. وهي من أكثـر المنتجات الثقافية تفاعلًا، وحضورًا في مساحة العروض الفنية في سورية وخارجها. ولها حضورها ونشاطها الكمي الأكثر تميزًا وزخمًا وجوديًا في معابر التواصل البصري كافة (المبدع وجمهوره ونقاده وصحفيوه ومروجو العمل الفني ومقتنوه).
إن حركة المعارض الفنية الجماعية والفردية، المليئة بالتجارب الفنية التشكيلية السورية، ذات النفحة المتفردة والموصولة بخـصوصيـة هذا الفنان، أوتلك الفنانة، تستحـضر جميع الأجـيال والمدارس والاتجـاهات الفنية التقليدية، والتسجـيليـة والسياحـية والفكرية الحداثية، وما بعد الحداثة (الشيئية) أو سـواها. ويمكن للمـتلقي والبـاحث ونقـاد الفن، ووسائط الإعلام المسموعة والمرئية، والمكتوبة، أن تلخص الخط البياني التصاعدي لهذه الحركة الفنية التشكيلية النشطة، كمًا ونوعًا، والتي لها من العمر أكثر من سبعين عامًا من العطاء المستمر، القائم على التنوع والاختلاف المنهجي، والمحـتوى الموضوعي، والأسلوبية الشكلية، والمعالجـة التـقنيـة، لهذه التجربة الفنية، أو تلك، إذ يمكن رصدها وتوثيقها منهجيًا في ثلاث مراحل زمنية رئيسة:
ما يهمنا هنا هو المرحلة الأولى، منتجـات فناني الرعيل الأول الذين تربوا وعملوا على أنفسهم في منتجـاتهم، وتجاربهم الفنية التي وجدت في فنون التقليد والمحاكاة، واستنساخ الأعمال الفنية في سياقـها النمطي التقليدي، والمؤسسـة في بعضها على النزعات الفطرية (فن الناييف) شكلًا مألوفًا لآليات العمل الفني.
تعود بدايات الحركة الفنية التشكيلية السورية. في وجودها الزمني وصيرورتها التطورية، إلى النصف الأول من القرن العشرين، حـيث كان للواقـع السياسي الذي تعيشه المنطقة العربية عمومًا، وسوريا خصوصًا، من انضواء تحت مظلة وسيادة الحقبة العثمانية التي ساهمت في تكريس الفنون العربية الإسلامية، ذات الصبغة الجمالية والأسلوبية العثمانية؛ حيث لم تتـجاوز المنتجـات الفنيـة -آنذاك- إطار الفلسفة الإسلامية في أنماطها الجمالية، كنوع من الحرف والمهن الفنية التطبيـقية الضرورية والملبـية لحاجات يومية محددة؛ المبتعدة بطبيعة الحال عن سياقات الفنون الجـميلة (التشكيلية) في الغرب الأوروبي، في إحـالاته الفنية والمعرفية والجمالية والتـقنيـة، كـتلك الأعمال ذات البناء التـقني والشكلي والنحـتي، في كـتل مليـئـة بالموضوعات الإنسانية (التشخيصية)، أو الحفرية (الترسيمية التخطيطية)، المتبعة في مختلف الدول والكيانات الثقافية، وفي الفلسفات الأوروبية البينية. لقد وجـدت مجموعة من المواهب الفنيـة السـورية، في الحقبـة العثمانية، مكانًا ملائمة لذاتها الابتكارية، من خـلال التعـامل الفني مع اللوحات التـصويرية الزيتية التزيينية ذات الطبيعة الاستنساخـية، المكرسة لشخوص القادة والأمراء الأتراك الذين عبَروا مدارات الجغرافية السورية، وسعوا لتسجيل المواقف البصرية لمأثرهم، في المدن والمحافظات السورية كافة، من مساجد وتكايا وقصور وأسواق ومزارات، ومعالم تاريخـية حـضـارية، وجمالية تخلد ذكـراهم، أو محاولة استلهام التاريخ واستحضار صور للخلفاء والفـاتحين العـرب والمسلمين، وتصـوير المعـالم الدينية الإسلامية، ومعاركهم الحاسمة في مفاصل التاريخ. وثمة نمط آخر من الحركة التشكيلية السورية للفنانين التشكيليين السـوريين الأوائل، الذين وجـدوا في الحـقـبـة الاستـعـمـارية الأوروبيـة الغـربيـة (الانتـداب الفرنسي) مجـالًا متاحًا؛ لصقل مواهبهم، ورعايتها، عبر المُتاح من السياسات الاستعمارية القائمة على الاحتواء الثقافي لتحقيق أهداف توسعية؛ حيث وجد الاستعمار الأوروبي و -الفرنسي خاصة- ضـالتـه المنشـودة في قنوات الثقافة عمومًا، والبصرية على وجه التحديد؛ فاتحًا أبوابه الأولى في محاولاته المُستدامة، للدخول المريح من خلال معابر الفنون الجميلة (التشكيلية)، كسياق طبيعي (تطبيعي استعماري)، وعامل مهم في تشكيل ذاكرة بصرية سورية، تتناغم مع ذاته الإبداعية، وتدور في فلك مرجعياته الثقافية والبـصرية التي تدين بالوجود والولاء للنزعات الفرنسية (الفرنكوفونية)، التي عملت جاهدة على تكوين ثقافـة بصرية سورية، تابعة لفنونها فرنسية الطابع والأسلوبية التقنية والمحتوى الموضـوعي، وقـد كـانت اللمـسـة الأوروبية (الاستـشراق) المجـال الحـيوي العـريض والمثـير للدهشـة والإبهـار لدى الفنانين التـشكيليين السوريين، في تلك المرحلة الزمنية، ما يسر وسهل عمليات استمالتهم إلى بيانها الفني التشكيلي، والعمل الفاعل لاستقطاب وظيفي للعديد من المواهب الفنية السورية، لاسيما شرائح الشباب، وتبنيهم فنيًا؛ رعاية ودعمًا متنوع الموارد والاحتواء، وصقلًا لمواهبهم عبر المنح التعليمية التي كانت تقدمها سلطة الانتداب الفرنسي -آنذاك- في هذا السياق.
لقـد برزت مجـموعة من الفنانين التـشكيليين السوريين الذين درسوا في الغرب الأوربي، وفرنسا (المدرسة الوطنية- بوزار باريس) وارتهن وجودهم الزمني والمكاني إلى إنتاجية فنية، تميل نحو التقليد والتبعية والمهنة الحرفية أكثر منها للروح الابتكارية والأكاديمية. نذكر من هؤلاء الفنانين على سبيل المثال: توفيق طارق، ميشيل كرشة، محمود جلال، عبد الوهاب أبو السعود، سعيد تحسين، صبحي شعيب، خالد معاذ، أنور علي أرناؤوط، وفتحي محمد.
لقد كان الفنان توفـيق طارق الذي عاش ما بين 1875 و1940، من الأوائل الذين سخروا مواهبهم وخبراتهم الفنية التجريبية، وثقافاتهم المعرفية والبصرية للأجيال الفنية الناشئة، التي تتلمذت على يديه في محترفه الفني بمدينة دمشق. وقد شكل هذا عاملًا مؤثرًا في تعميم الأنماط الفنية التسجيلية، ذات الصبغة المهنية الاحترافية، المطابقة تأليفًا وبناء تكوينيًا، وذات الطبيعة المهنية الأقرب إلى الحرفة والصناعة منها إلى الفن التشكيلي الأكاديمي التعليمي.
وقد اتخذ أسلوبية العين واليد الخبيرة في تصوير المناظر الطبيعية، والمشاهد الخَلوية، واللوحـات الشخـصـية للقـادة والأمراء العرب المسلمين. والمعـارك الفاصلة في التاريخ العربي الإسلامي، وتسجـيل اللقطات البصرية الموثقة للمعالم الإسلامية، من مساجد وأحياء دمشقية بوصفهاها الشغل الشاغل، والمجال الحيوي لعموم رسومه ومنتجه الفني التشكيلي، الذي رافقه طوال حياته الفنية. ومن أبرز لوحاته (معركة حطين).
أما الفنان عبدا لوهاب أبو السعود الذي عاش ما بين 1897 و1951، والذي كـان متـعدد المواهب الفنية، توزعت ما بين المسرح والفن التشكيلي، والعمل التربوي الوظيفي، كمدرس في مدرسة التجهيز الأولى بدمشق، فقد كان له أكبر الأثر في رعاية مجموعة من الفنانين والمواهب السورية، والتي أمست موئلًا ومكانًا مميزًا لرعاية الموهوبين، ومركزًا أساسًا في تفعيل الحضور الفني لحـركتي الفن التشكيلي والمسرح في سورية. كان مأخوذًا بالجماليات العربية الإسلامية، وبفنونها الزخرفية وعمارتها المتميزة التي رافقته في كل لوحـاته ومنتجـاته الفنيـة؛ توثيقًا ولمسة تقنية ومواقف بصرية تسجيلية، ومن أشهر لوحاته (فتح الأندلس- قصر الحمراء”(
بينما جسّد الفنان سعيد تحسين، الذي عاش مـا بين 1904 و1985، النقلة النوعـيـة في تاريخ الحـركة الفنية التـشكيلية السورية، من الفن الفطري ذي النفحة المهنية الشعبية، إلى الصيغة الأكاديمية ذات الأبعاد المهنية الدراسية، مستفيدًا من وجوده في بغداد عام 1924، كمدرس للفنون في دار المعلمين، ما أتاح له تمثيل الروح القومية العربية التي كانت تجد لها فسحة واسعة في تلك الفترة، حيث كانت اللوحة التاريخية والشعبية والسياسية الاجتماعية التحررية؛ عناوين بارزة في عموم لوحـاته، ومن أهم أعماله (صلاح الدين الأيوبي، قصف المجلس النيابي”(
اما الفنان محمـود جلال، الذي عاش ما بين 1911 و1975، فيُعدّ حجر الأساس في ولادة المنهج الأكاديمي في الفن التشكيلي السوري، من موقـعه، كتربوي وفنان منتج في وقت واحد؛ فقد سمحت له مواقـعه الوظيفية في إطار السلك التربوي، خوض غمار البـحث، عن طرق ومنافذ أكاديمية، لرعاية وصقل المواهب الفنية السورية من خلال البعثات التعليمية في دول الغرب الأوروبي ومصر العربية المتقدمة فنيًا، فكانت جهوده المبذولة خطوة البداية؛ لإيفاد عشرات الأسماء الفنية التي تبوأت مكانة مرموقة في الحركة الفنية التشكيلية في عموم الأراضي السورية ومدينة دمشق وحلب على وجه الخـصوص. لقد كان الفنان محمود جلال تربويًا فـاعلًا ومصورًا ونحاتًا مميزًا، أنتج العديد من الأعمال الفنية من أشهرها لوحاته التصويرية (صانعة القش(، بينما تفرد النحات فتحي محمد، الذي عاش مـا بين 1917 و 1958، والذي وجـد نفسـه وذاته الفنية في ميادين النحت في تقنياته المتنوعة الخدمات والقدرات، ولا سيما خامة البرونز، في أسلوبيته التعبيرية المتأثرة بالمدارس الإيطالية، وبالفن ذي النسب المذهبية التقليدية؛ حيث أسس لوجـود نحت سـوري مـعـاصر خـارج المألوف الاجتماعي والنفحة الدينية التحريمية، مقدمًا مجموعة من التماثيل والنصب التذكارية التي ازدانت بها الساحات العامة المنتشرة في سورية، أبرزها تمثال عدنان المالكي، الموضوع في ساحة المالكي في حي أبي رمانة في دمشق.