قضايا المجتمع

المثل العليا والديمقراطية

حين نطرح “الإسلام هو الحل”، نرفع مُثـُلَ الإسلام من أجل الوطن، لا من أجل المجموعة، مهما كانت تقواها. والحزب الإسلامي أو غير الإسلامي هو حزب وطني، وكل أبناء الوطن يجتمعون على مثل عليا، هي ميثاق عمل سياسي، ذو نزعة إنسانية، لا علاقة لها بشعائر الإيمان، ولا بالتعصب الديني أو المذهبي أو الطائفي.

 

فالتعصب الواعي هو للوطن، للقوم، للأمة. وسياسة الدولة والمجتمع قابلة لأن تكون إسلامية بهذا المعنى، ولكن الإسلام غير قابل للتسييس؛ من هنا نفهم أن تقسيم مَن سبق للدنيا، على أنها دار إسلام أو دار حرب، ليس سوى خدعة كبيرة، عاشتها الأمة بسبب تعصب الفقهاء أمدًا طويلًا. ونرى أن الدنيا هي دار إسلام أو دار دعوة، }يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنًا، تبون عرض الحياة الدنيا، فعند الله مغانم كثيرة …{ (من الآية 94 سورة النساء).

 

فالدعاة هدفهم الدفاع عن المثل العليا، كضرورة لا غنى عنها لكل الناس، سواء كانوا مسلمين أم غير مسلمين؛ لذلك، فالديمقراطية (بمفهومها النظري وليس الدعائي)، لا غنى عنها في حماية مثل الإسلام العليا.

 

 

إن الديمقراطية، وهي المعنى الأوسع لمفهوم الشورى، هي النظام الوحيد الذي يمكن حماية المثل الإسلامية العليا من خلاله؛ لذلك، فإن قام النظام الديمقراطي وما فيه من تعددية حزبية، أو مبدأ تداول السلطة، أو حرية الرأي والرأي الآخر، وحرية التعبير بكل الوسائل، مثل هذا النظام ستجد فيه المثل العليا الإسلامية مكانها، لأنها مثل فطرية تهم الناس جميعًا، وستجد من يدافع عنها، -إنْ لم يتبناها كمنظومة ملزمة لحياته الخاصة؛ لأن الديمقراطية هي النمط العلمي للحياة الإنسانية، وهي -كمبدأ الشورى- من تكاليف الإيمان، وهي الحامية الوحيدة للمثل العليا الإسلامية التي من ضمنها حقوق الانسان.

 

إن الديمقراطية هي مفتاح لرؤية شرعية، يمكن أن نطلق عليها “فقه التعامل”؛ ذلك، لأن الدعوة غاية في حد ذاتها، فعلى الداعية أن يجيد (فقه التعامل) مع المجتمع الذي يعيش فيه، فيفتح منافذ للدعوة، بامتلاك أكبر قدر من المرونة، مع الإبصار الكامل والدقيق والأمين للأهداف، والتقدير الكبير للغايات. فقه التعامل يجعل الداعية يعمل على إخراج الدعوة من العزلة، دون أن يكون مشاركًا في وضع قيم أو المساعدة على إشاعة قيم غير قيم الإسلام، ودون أن يمد قيم الباطل بدم جديد، ولو كان دم التأييد.

 

لابد من إعادة تأسيس الدين على الأخلاق؛ من أجل إمكان تسويغ الأوامر والنواهي الدينية، وكل ادعاء بتعالي الأوامر الدينية التي لا تجوز المناقشة فيها، تفتح باب العدوان والتسلط والممارسات الاعتباطية من أشخاص، حفظة وقرّاء، لا تتجاوز معاني الكتاب حناجرهم.

لا يوجد إسلامي يطرح أولوية الأخلاق على الدين، والضمير على الشريعة؛ لأن الشريعة كلها تخلّق بمكارم الأخلاق، كما يقول الشاطبي، والغرض من الأحكام تحقيق الأخلاق التي تحتها.

 

أما لماذا ظهر الخروج عن الأخلاق، على الرغم من وجود النص القديم الذي يتداوله الجميع، وديدنه الالتزام بالقيم والمثل العليا؛ فإننا نجد أن الخلط بين ما هو سياسي وما هو ديني، بين ما هو ثابت وما هو متبدل، وحيث الجميع يتشارك بقواعد، لا تفرق بين الإسلام السياسي والإسلام العام؛ وبالتالي، الأولوية لمن يدعي الالتزام بالنص، هنا يبدأ التدخل في الحياة الخاصة، وفرض القواعد على الضمير، وهنا حيث الكل يشترك في تكفير الآخر؛ فتصير الوطنية كفر، والعلمانية كفر، والديمقراطية كفر؛ وبالتالي، الحكومات كافرة، والدول كافرة، والجيوش كافرة، والأعلام شعارات الكفار. هنا يبدأ الفصل بين الضمير والعالم الذي يمثله النص، وتبدأ حرب المثل، بين أيها الشرعي وأيها غير الشرعي، وهنا نخرج من دائرة الحكم بما أنزل الله، إلى الحكم بما نراه، وما نراه ليس بالضرورة ما يراه الآخرون.

 

إن خصوم المؤدلجين برؤية أحادية تقوم على تكفير المخالف، هؤلاء الخصوم، حتى لو كانوا من علماء المسلمين، لا يستطيعون مواجهتهم؛ لأنهم يتشاركون الأرضية الفكرية التي تمنح الأولوية لأوامر الشريعة، دون حساب للزمن والوضع والتحولات، ودون حساب لمقتضيات الضمير والسياسة.

 

تعريف الفقه بأنه الفهم، وأنه الأحكام الشرعية التي ثبتت بالنص أو بالاستنباط أو بالإلحاق لوقائع، بما فيه نص، يجب ألا يخرج عن ارتباط هذا النص بالمثل العليا، وعن مرجعية الضمير في الحكم على الوقائع، ومن ثم لا يكون قياس في الوقائع لا ينزع إلى الضمير، فالضمير هو الوازع الحقيقي في أمر الدين.

 

عندما ننزل الديمقراطية منزلها (ولا مساحة في المصطلح) كفقه للتعامل، سوف يتم استيعاب الآخر والتعايش معه وحسابه على خالقه، في ما يعتقد، وحسابي معه في درجة التعامل.

 

يوم كان الفقه في خدمة السلطة، كان القياس هو النشاط العقلي الوحيد للفقهاء، ومازال التسطيح التشريعي من وراء ذلك؛ لأنه بدون مشاعر، وحين يستندون إلى أمهات كتب الفقه التي تمثل تجربة تاريخية، مجرد التفكير بإعادتها تساوي الفشل في الحياة، صار الفقه الإسلامي إما في خدمة السلطة والترويج لها (فقه سني)، وإما في خدمة المعارضة وولي الفقيه (فقه شيعي)، وكلاهما ضرب من العبث، يعيش في بطون الكتب ولا علاقة له بالواقع.

 

المقدس الإلهي يجب أن يصان من السياسة، وكل فرق الإسلام السياسي بحاجة إلى الوضوح، يجب أن يبتعدوا عن التفكير بأنهم مصدر الوحي وشراحه، وأن الله لم يهد سواهم، وأنهم حماة الدين وحدهم، وأن يعلموا أن لهم شركاء في الوطن، يقاسمونهم الحياة والموت فيه، حتى إن لم يكونوا على دين، وأنهم مسؤولون مثلهم يحاسَبون ويحاسِبون ، ومن أجل حياة مشتركة، تقوم على مفهوم المواطنة السبيل الوحيد إلى عدم إقامة علاقة تعارض، وتناف بين الإيمان الديني وقيم الحداثة، اعتماد قاعدة فصل الروحي عن الزمني؛ وبالتالي، حصر الدين بالمجال الشخصي، وذلك من أجل عتق الدين من قيود التصورات الأيديولوجية، المتقادمة بالضرورة مع تطور التاريخ، ومن أجل التثوير الدائم للعلم.

 

الديمقراطية بما هي اكتشاف الناس الفصل بين السلطات، واختيار الأصلح لإدارة شؤون الناس، هي وسيلة للتعايش، وفي ساحتها يمكن فك الارتباط، لصالح سيادة المثل العليا على الجميع.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق