هموم ثقافية

تشوهات النفس الإنسانية بعد الحرب

“هي الصدفة القدر، حين يكون الفعل ضرورة”.

بهذا يبتدئ الحديث في الفيلم للمخرجة لليانا كافاني

الفلم/ القصيدة، تجسيد لحالة الحب المستحيل، تجسيد للعلاقة الاستثنائية بين الضحية والجلاد الذي كان بدوره ضحية للحرب.

 

أسئلة تفسيرية يطرحها الفلم في شرح هذه العلاقة:

  • أهو الجلاد في طلبه المغفرة من الضحية؟
  • أم هي الضحية الراضخة بعشقها للسلطة، لأنها الاقوى؟
  • أم لعله مرض إيجاد الذات في اللذة بتعذيب الاخرين (السادية)، كما في حال الجلاد، أو اللذة في تلقي العذاب (المازوشية) كما في حالة الضحية؟

إنها الحرب ومشوهوها النفسيون…….

بانتهاء الحرب العالمية الثانية وسقوط (هتلر)، تفتتت النازية، وانتهت كنظام سياسي اجتماعي، لكنها لم تنته كنظرية لأنه وجد –ومازال- من يؤمن بتلك الأفكار التي نادت بها النازية، ولم تنته -أيضًا- عند الآثار التي خلفتها، فمساوئ هذه الحرب لم تقتصر على حرق الأراضى وتدمير الأبنية وقتل البشر، بل طالت تركيب النفس البشرية، فدمرتها وعملت على تشويهها. تجري أحداث الفيلم في (فيينا) العاصمة النمساوية عام 1957، أي: بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية باثنتي عشرة سنة، في فندق يعمل فيه (ماكس) بوابًا ليليًا (يلعب هذا الدور دير بوجارت).

 

منذ البداية يتعرف (ماكس) على إحدى ضحاياه في معسكرات الإعتقال النازية؛ امرأة جاءت من أميركا إلى النمسا مع زوجها المغني؛ لتقيم في الفندق، ما أثار حفيظة (ماكس).

من خلال التتابع السردي لأحداث الفيلم، نعرف ان هذا البواب الليلي عضو في مجموعة فاشية، تعقد اجتماعات، تخطط فيها لتصفية كل الشهود، وإتلاف كل الوثائق التي قد تثبت علاقتهم (بالجستابو)، في حال وقوعهم تحت يد العدالة. وهذه المجموعة الفاشية تضم في إطارها -إضافة إلى البواب- عدة شخصيات، أهمها: البرفيسور قائد المجموعة، والراقص الذي يتعاطى الحقن المخدرة، ويحلم بأن يصبح غنيًا ذات يوم، وامرأة مضى بها العمر؛ غارقة في عطورها الرخيصة، تبحث عن شاب، يستطيع أن يلبي رغباتها العاطفية.

 

تعتمد المخرجة أسلوبين متداخلين في عرض الأحداث:

-الأول: سردي واقعي يواكب تطورات الحدث (بداية، وسط، نهاية) نتابع من خلاله نشاطات المجموعة الفاشية إلى حيث العقدة ومن ثم إلى النهاية.

-الثاني: قَطع متكرر يمثل العودة بالذكريات إلى معسكرات الاعتقال النازية؛ يعتمد على التراكم الواقعي للذاكرة؛ ويتجنب إثارة التعبير الدرامي للفزع. هذه العودة إلى الماضي لا تقتصر على البواب وحده، بل على الضحية أيضًا (الدور الذي تلعبه الممثلة شارلوت دنبلي). ومن خلال هذا القطع المتكرر ممثلًا بـ- (العودة إلى الذكريات) نتعرف على البواب ماكس -الضابط النازي السابق- الذي حافظ على حياتها بعد أن وقعت في معسكر الاعتقال، لأن والدها اشتراكي، ومارس بحقها كل ما تفتق عنه عقله المشوه من نزوات؛ بكل تجلياتها السادية.

 

يلعب القدر مرة أخرى دوره حيث يسافر الزوج بشكل طارئ إلى برلين، لإحياء حفل هناك؛ تاركًا إياها وحيدة، على أمل ان تلحق به. ويجد في ذلك ماكس (البواب) فرصة ملائمة فيصعد إلى الجناح الذي تقيم فيه، معتقدًا إنها جاءت إلى الفندق لملاحقته والانتقام منه.

 

يكون اللقاء الأول بينهما عنيفًا، في بدايته بسبب المواجهة، ومحاولة الهروب من الماضي وكبت الرغبات الدفينة برغبات سطحية. ولا يمكن أن يؤدي هذا كله، إلّا إلى الانفجار، والعودة العنيفة إلى الماضي -الحب المستحيل والذكريات السابقة- تحولت حينها إلى غاوية، وكان ذلك ممكنًا في معسكرات الاعتقال وله ما يبرره) في محاولة منها للحفاظ على الذات)، وكان ذلك لماكس علاقة عابرة ومحاولة للتسلية. أما الآن وفي هذه المرة، فكان (الحب) هو الدافع والهدف في محاولة؛ لإيجاد شتات الروح الممزقة.

على الرغم من الذكريات التي ترافق علاقتهما العنيفة؛ فإن هذه العلاقة تنمو، وتصبح أكثر تماسكًا إلى درجة يقدم كل منهما قرابينه لهذا الحب؛ هي تتخلى عن زوجها لتذهب إلى جلادها، وهو يقوم بقتل الشاهد، رفيقه الذي ينتمي إلى مجموعته، خوفًا من أن يخبر المجموعة الفاشية بوجودها.

 

تناقض صارخ هذا الشرخ في الشخصيتين (هي برفضها الحياة السوية مع زوجها المغني المشهور؛ حيث المال والجاه والاحساس بالأمان، وهو بقتل صديقه من أجل الحفاظ على حياة حبيبته، أو بالأحرى الحفاظ على شاهد إدانته)، ما يعكس التناقض الصارخ في بنى هاتين الشخصيتين، إذا ما قيس الأمر بمنظار أخلاقي أو عرف اجتماعي سائد.

 

وتعلم المجموعة الفاشية بوجودها، فتبدأ بمطاردتها؛ لقتلها بكون شاهد واحد، أكثر أهمية من مئة وثيقة مكتوبة؛ فيتخلى عن هذه المجموعة، ويهرب بطريدته إلى شقته، بعد أن احتاط بتخزين الأغذية، وعمل على تأمين مصدر يومي للتموين، ولكن هذا المصدر يتوقف بعد أن علمت المجموعة الفاشية بوجودهما، فيمنعون عنهما الغذاء والماء والكهرباء، وتبدأ حالة الحصار. ويتصاعد الحدث؛ ليأخذ ابعادًا أخرى في الحفاظ على ما تبقى من شتات الروح البشرية، أو التمسك بحرية اتخاذ القرار أو اللجوء إلى أسلوب المواجهة والدفاع عن الحبيب. إنها حالة حب في الأحوال كلها، وذاكرتنا محشوة بقصص الحب الرومانسي، المليء بالعواطف الجياشة والحب المزين بالزهور وبعض الأشواك، وفي أسوأ الأحوال قصة حب محكومة بالفشل؛ نتيجة عوامل اجتماعية محددة. نحن هنا أمام حب من نوع آخر؛ حب رُسمت تفاصيله بالأشواك وبشظايا الزجاج المحطم.

 

يتخذ الفيلم/ القصيدة شكله الباهر؛ لتجسيد الحب في الحصار والجوع. هذا التحدي لا يرتسم بالكلمات، إنما بحركة الأعين، بتعابير الوجه وحركة الجسد، وهذا ما يعطي الحدث قوة أخرى في التعبير، إضافة إلى استخدام الصمت كوسيلة تفتح لنا آفاق المشهد.

 

ينفد الغذاء والماء يومًا بعد يوم، والشقة ما زالت محاصرة في الخارج من قبل المجموعة الفاشية، وفي الداخل هما محاصران بالذكريات المشتركة، وتبدأ قواهما بالانهيار، إلى درجة أنهما يفقدان فيها السيطرة على جسديهما، لكنهما يستمران في ممارسة الحب بطريقتهما الخاصة، ومن حالة الحصار والقوى التي بدأت تنهار، ومن محاولة الحفاظ على الذات والذات الأخرى، وعلى الرغم من كل شيء، يندفع التحدي للانعتاق، للهواء الطلق إلى الحرية (الهروب إلى الموت). ثم تأتي العودة الأخيرة إلى الماضي، لكن ليس بالذكريات بل بالجسد والروح؛

يلبسها الثوب الذي كان أهداها إياه في معسكرات الاعتقال، ويرتدي بزته العسكرية (الجستابو) بشعار الصليب المعقوف، ويخرجان من الشقة وهما يعلمان تمامًا ما الذي ينتظرهما في الخارج، وينطلقان نحو الحرية (الموت)، حيث يطلقون عليهما النار وهما متشابكي الأيدي كعاشقين في نزهة.

 

اعتمدت المخرجة على التصوير ضمن أماكن مغلقة ومحدودة الأبعاد (غرفة الفندق، الشقة، غرفة التحقيق ومهاجع النوم في معسكرات الاعتقال)، كما اعتمدت على الإيقاع الايمائي والحركة اللزجة للممثلين، وبخاصة؛ الممثلة بنظراتها الزائغة التي تمتلك كل شيء، وتعطي في اللحظة نفسها إحساسًا بالبلاهة. وكل هذا يدفعنا أكثر إلى الاقتراب من العالم الداخلي والاندماج الحيادي بهذه الشخصيات.

الفيلم صورة مصغرة وبسيطة لمجتمع ما بعد الحرب، وعرض لتشوهات النفس البشرية والدمار الداخلي الذي تخلفه الحرب، ونحن لانجد في الفيلم أي شخصية سوية، إنه يغوص في أعماق هذه الشخصيات؛ لتصوير انحرافها الاجتماعي والمفاهيم التي نشأت بعد ذلك.

 

وعلى الرغم من الشكل الذي قُدمت فيه الشخصيات، وسلوكها المنحرف، فإننا لا نملك أنفسنا من التعاطف والتضامن معها، وإن كنا ندينها في اللحظة نفسها.

 

ففي الحرب نحن دائمًا ضحايا حتى وإن كنا في موقع الجلاد.

 

الفيلم إنتاج أميركي- إيطالي مشترك. وقد مُنع من العرض في أسبوعه الأول بسبب قسوته. والى الآن، وعلى الرغم من مرور أكثر من أربعة عقود على تصويره؛ فانه مازال محظورًا في كثير من الدول، وخاصة لمن هم دون الثامنة عشرة.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق