لقد خلع القوميّون الأتراك الرّداء العثماني وخسروا عن عمد وعن حسن نيّة الشواطئ الغربيّة والجنوبيّة للبحر المتوسّط، ثمّ خضعوا بعد ذلك، ودون أيّ تردّد، إلى مقتضيات معاهدة (لوزان) التي سترسم حدود الدولة الوريثة للإمبراطورية المريضة، القيادة التركية الجديدة ستعدّ هذه المعاهدة هي الأساس في رسم حدود دولتها، هنا، ستتكثّف اللحظة التركيّة التاريخيّة في القيادة الفذّة لمصطفى كمال، وسترتَسمُ ملامحُ الجمهوريّة.
مصطفى كمال المتحدّرُ من الطبقة المخمليّة التي كانت تحتضن البيت السلطاني، والناشئُ في أحضان المدارس التي كانت تعلّم على ضوء المناهج الغربيّة، والضّابطُ المحنّك والمناور والذي سيسجّل انتصارات مهمّة على الغزاة اليونان، والممسك بتلابيب الجيش والسّياسة، والتركيّ المتعصّب لتركيّته، سيقلب المِجن، ويضع الدستور الأكثر جرأة، ويرسم معالم الخطوط الاستراتيجيّة للقافلة التركيّة، ويُثبّت المبادئ الأساسيّة التي ستلازم الكيان السّياسي الجديد (العقيدة العلمانيّة هي البوتقة التي تحتضن البيئة التركيّة شكلًا ومضمونًا – تركيّا دولة للأتراك – يتطلّع الأتراك إلى الاندماج بالحالة الأوروبيّة، وينتظرون قاطرتها التي ستقلّهم إلى فيحائها بفارغ الصّبر).
سيقدّم أتاتورك أوراق اعتماده، ويتقدّم بخطوات (حسن النيّة)، متأمّلًا حسن سلوك أعداء الأمس القريب، فيسمّي أنقرة عاصمة سياسيّة لجمهوريّته، ويحوّل إسطنبول إلى مدينة ثقافيّة، ويطرد الشّعائر الإسلاميّة من المساجد، التي أحدث إنشاؤها جرحًا نرجسيًّا لدى الأوروبّيين المسيحيّين، كما ويرفع (الله) من القَسَم، ويلغي فقرة دين الدّولة، ويعتمر الرّداء الأوروبّي؛ محاولًا إحداث قطيعة مع الماضي العثماني ذي النكهة العربيّة الإسلاميّة، لقد رجَعَ أتاتورك خطوة إلى الوراء، فتخلّى -نهائيًّا- عن الامتداد اللامتناهي لدولة الأمس، وتخلّى عن كره دولته لدول أوروبّا، واعتذر من (القسطنطينيّة)، ثمّ جلس -وبكلّ تواضع- على المقاعد الخلفيّة للمسرح الأوروبّي. لقد درس هذا القائد خطواته بعناية وحذر شديدين، وساعدته بصيرته الاستثنائيّة على وضع النقاط الملائمة على الحروف الملائمة وفي الوقت الملائم؛ فارتبط وجود الدّولة التركيّة التي أسسها بالمبادئ الآنفة، وبقيت ظلاله حاضرة حتّى الآن.
رُسمت الخطوط التي تحدّد الحركة، ووُضعت القواعد التي ترسم مساحة التّكتيك، وأُعلن عن الهويّة، وعن مآلات المستقبل، فبقيت الجمهوريّة التركيّة حبيسة النّظام الجمهوري المؤسس على العقيدة العلمانيّة الصّارمة، والتي حفظها، وحافظ على بقائها، الجيش التركي، لقد قُضي على دولة (عدنان مندريس)؛ لأنّها تمادت في (لَبرَلة) النظام الاقتصادي التركي، وكذلك، لأنّها فتحت الباب الحرام، وأفرجت عن الثّقافة الإسلاميّة، فأُعيد الأذان العربي إلى المآذن، ورُفع الغطاء عن إقامة الشعائر الدينية؛ ما دفع الجيش، المشبّع بالمبادئ العلمانيّة وبالعقيدة القوميّة، إلى الانقلاب، والإجهاز على مندريس، وعلى بعض من رفاقه.
سيكون للنّهاية المأساويّة التي ألمّت بمندريس تأثيرًا بالغًا على الحياة السّياسيّة التركيّة، وعلى شكل الأحزاب وأفقها المتاح والمرتجى، سيتأقلم السّياسيّون مع الهامش المتاح، وسينخفض منسوب الخطاب، وسيتنافس المتنافسون تحت سقف أتاتورك؛ ولذلك، فإنّ المّتغيّرات التي ستحدث -بعدئذ- ستكون متناغمة مع (المارش) العسكري، وسيكون الضّبّاط هم ضبّاط الإيقاع، والسّكتات الموسيقيّة هي الانقلابات العسكريّة على أولئك المنشّزين، وسينسحب المنشّزون قبل استفحال غضب العسكر، وستكون الحجّة المزمنة لضباط الجيش هي أنّ الدّبابات والعسكر هم حُماةُ العلمانيّة، وهم الذين يردّون المخطئين إلى جادّة الصّواب، والصّواب هو العقيدة الأتاتوركيّة المبينة.
لقد آلت الجمهوريّة التركيّة، بعد أربعة انقلابات وحياة سياسيّة رتيبة، إلى حزب العدالة والتّنمية، وتحصّل الزّعيم أردوغان على رضا الشّعب، وتمتّعت الدّولة التّركيّة بالاستقرار والنّهوض الاقتصادي، وتقلّص نفوذ الجنرالات، ولكن الجانب غير المرئي من هذا المشهد، هو أنّ أردوغان وحزبه، إنّما هما من مستنبتات المزرعة الكماليّة، وأنّ مبادئ (المنفعة والمصلحة والممكن والمتاح والمأمول والواقعي) هي مبادئ أردوغان، وهي مبادئ الطبقة السّياسيّة التي حكمت تركيّا، وأنّ الفوارق بين (عصمت إنونو، وعدنان مندريس، وتوركوت أوزال) هي فوارق طرفيّة، وأنّ الجوهري متّفق عليه.
لقد انضمّت تركيّا إلى حلف الأطلسي، في السّنة الأولى من حكم مندريس، وطبّعت تركيّا العلاقات مع إسرائيل في عهد أردوغان، وأُسّستْ سياستها الخارجيّة على مبدأ (اللعب بالممكن)، وعلى مبدأ (الانحناء للعواصف)، وعلى مبدأ تجنّب الحروب الكبيرة؛ لذا لن تذهب بعيدًا في أيّ مغامرة غير محمودة العواقب، وستدرس الموقف جيّدًا، وسترجع خطوة إلى الوراء إذا اقتضى الأمر، وهي تعرف جيّدًا أنّها قد تجاوزت المسموح به، عندما حقّقت القفزة الاقتصادية، وأنّ الصراخ في سوريّة والمآل في تركيّا، وأنّ إحاطة الخصر التركي بحزام النّار الكردي، إنّما هو قرار أميركي وروسي في آن معًا.
إنّ روسيا غير الراضية عن الجار الغني، والذي سيغري سكّان الحديقة الخلفيّة للدّب المتصابي، وأميركا المستاءة من تمرّد عاملها الذي اعتادت رضوخه، ستشتركان في دعم صالح مسلم، وفي إحراق الخاصرة الجنوبيّة من تركيّا، وتركيا (أردوغان) ستبيع روسيا (الاعتذار)، وتبيع أميركا التّطبيع مع (إسرائيل)، ثمّ تمضي دون أيّ اكتراث.