جاء في معاجم اللغة أن الطائفة من الشيء جزء منه، والطائفة من الناس كالفرقة والقطعة منهم، إذًا؛ الطائفية بالاشتقاق اللغوي مصدر صناعي من الطائفة، [وقد تكون اسمًا منسوبًا. المحرر]؛ فهي الانتماء إلى هذه الجماعة التي تحمل قيمًا وأفكارًا أيديولوجية معينة، تؤمن بها وتتعصب وتنحاز لها.
بعودة سريعة إلى تاريخ البشرية، لا نجد آثارًا للطائفية، فلم تكن الأقوام والأمم القديمة تتصارع بحسب الانتماء الديني، أو بحسب الاختلاف في الرؤى الأيديولوجية لكل دين، كما يحدث الآن؛ لأن المجتمعات القديمة وثنية تعبد الأصنام والتماثيل والكواكب، ولم يكن هناك ظهور للطائفية والعصبيات، فقد كان السبب الرئيس لتلك الحروب فرض السيطرة، ومد أركان الدولة لغايات استعمارية فحسب، بل على العكس كانت تلك الأمم تتأثر ببعضها، وتقتبس الآلهة من المجتمعات المُحتلَّة وتقدسها، وتنحت لها التماثيل وتعبدها، وتستمد طقوسها، وتضيف إليها بعض الموروثات من خزانها التراثي الفكري، ولنا في الاقتباسات بين البابليين واليهود والكنعانيين ما يعزز ذلك، من خلال ما نراه من أسماء الآلهة والمعادِلات الروحية فيما بينها، والتشابهات في أساطير تشكيل الكون والعلاقات بيت الآلهة وأبنائها.
في جزيرة العرب قبل الإسلام لم يكن هناك طوائف وفرق وملل متعددة؛ فالوثنية هي التي كانت سائدة ومتحكمة بعقول العرب الذين كانوا يعيشون في جزيرتهم، مسحورين بتلك البيئة المترامية الأطراف، مبهورين بسمائها التي تظللهم، عاجزين عن تفسير جوهرها، فلجؤوا إلى النجوم والقمر والحجارة والصخور والأشجار لعبادتها؛ لحاجتهم إلى ما يتعلقون به، وجعله المسؤول عن تسيير أمورهم؛ فالجانب الروحاني في الإنسان دائمًا ما يحتاج إلى علة لكل معلول، مع وجود اليهود والمسيحيين والحنفاء على أراضيها، لكن التاريخ لم يسجل لنا حوادث طائفية، تقوم على الاقتتال بسبب هذه الاختلافات، أو أن من كان يعبد اللات يتعصب لها دون العزى، وإن كانتا معادلتين لبعضهما بعضًا، فهذا التنوع في الآلهة لديهم، كان يستوجب أن تتوفر طقوس لكل إله دون غيره، تقدم له وفق أسس محددة.
ومع ظهور الديانات التوحيدية، وافتراق كل ديانة إلى فرق متعددة بدأت معالم الطائفية بالترسخ، فنشأت الطائفية داخل كل فرقة ادعت أنها الصواب، زاعمة أن الفرق الأخرى في ضلال، فصارت كل فرقة تقدم الأدلة والحجج على أنها الفرقة الصحيحة التي ينبغي على الجميع اتباعها، وتُؤَوِل وتفسر حسب ما يناسب متطلباتها وأهوائها. ومع ظهور الإسلام سيطر على المجتمع في الجزيرة العربية وفرض سلطانه عليه بعد صراع طويل مرير، لكن هذه السيطرة ما برحت أن بدأت تخفت بوفاة النبي، حتى نمت الخلافات حول من يخلفه، وظهرت الاختلافات والانشقاقات والوهن الذي كان متسللًا في جسد الدولة الحديثة النشأة، فاندلعت حروب الردة التي أفنت الكثير من العرب باحترابهم ضد بعضهم، بعدما توحدوا لفترة وجيزة، وأعادوا القتال والحروب بينهم، لكن هذه المرة بتغيرات وأحوال جديدة، فحروب الجاهليين سابقًا كانت من أجل الغزو أو لأخذ الثأر، أو بسبب ناقة (حرب البسوس)، أو بسبب فرس وحصان (داحس والغبراء)، أو لاسترداد كرامة مهدورة بعد إهانة تلقاها أحد الأعراب، أو في صراعهم مع الممالك المجاورة. أما الآن، فتغيرت المعطيات؛ إذ إن العديد من القبائل رأت نهاية الإسلام بوفاة النبي، ورفضوا دفع الزكاة التي كانوا يؤدونها له، فوجدوا أن هذا الفرض عليهم يجب أن يتوقف؛ لأن من فرضها قد مات، فطائفيتهم تجلت في صورة تحولهم إلى طائفة حادت عن النهج العام برفض دفع الزكاة، ترفع هذا الشعار انطلاقًا من اختلاف مبدئي، إلى أن حاربهم أبو بكر لإخضاعهم، وليعودوا إلى دفع الزكاة، حتى قال في ذلك “لو منعوني عقالًا لجاهدتهم عليه”.
وما لبث التحزب والتطييف أن ظهر بصورة جلية في موقعة الجمل التي اشتعل أوارها بسبب مقتل عثمان بن عفان، وتمددت آثارها إلى الصراع بين علي بن أبي طالب ومعاية بن أبي سفيان على الخلافة، فدارت حومة حرب للصعود إلى خلافة المسلمين، فكان أن نتج عنها ظهور فرق وشيع تتبنى أيديولوجيات جديدة، لم تكن مألوفة لدى المسلمين الذين كانوا في بدايات تأسيس دولتهم، وقيام حروبهم لتعزيز دولتهم وتثبيت أركانها. هذه الفرق والشيع، ارتمت كل منها خلف أهدافها لتحقق مراميها، فكان لهذا الحدث الفاصل أن قسم العرب نصفين، ما زالت قعقعة سيوفه تسمع إلى الآن، بعد ألف وأربعمئة عام على انتهائه.
في المجتمعات البدئية والبدائية التي كانت ترى تعدد الآلهة هو النظام السليم لحكم الكون، لم تظهر العصبيات التي سادت بعد ظهور الديانات التوحيدية التي شرعت فيها الأبواب على أيدي مريديها؛ من أجل العبث بمصائر العامة وتوجيههم.