يشكل عام 1979 منعطفًا مهمًا في التاريخ المعاصر لمنطقة الشرق الأوسط؛ ففي 16 كانون الثاني/ يناير من ذلك العام، انتصرت “الثورة” الإيرانية؛ وأطاحت بنظام الشاه محمد رضا بهلوي، رجل أميركا في المنطقة، نتيجة تحالف القوى السياسية الإيرانية من ليبراليين ويساريين ومراجع دينية! إلا أن الخميني الزعيم الثوري، سرعان ما انقلب على رفاقه في الثورة من غير الإسلاميين؛ لتستفرد المرجعية الدينية الشيعية بقيادته بزمام سلطة كهنوتية مطلقة في إيران؟ وبعد أن تخلص من خصومه السياسيين؛ أعلن مبدأ تصدير الثورة خارج إيران!
هنا شعرت الإدارة الأميركية بقلق كبير من المشروع الإيراني؛ حيث أن هناك ماردًا جديدًا؛ بدأ يخرج من قمقمه، ويمثله الإسلام السياسي؛ فالسعادة الغربية بترنح المارد السوفياتي بسبب (بيريسترويكا) غورباتشوف، قبيل سقوطه وتفككه عام 1990، لم تكتمل؛ ولا بدّ من مواجهة مرسومة ودقيقة مع مشروع تصدير الثورة الذي أعلنه الخميني، ومنحت الأمل للشارع العربي بمختلف تياراته العلمانية والإسلامية، ولا بد من الإسراع في كبح أيديولوجيا تصدير الثورة بطريقة ذكية؛ لا تجعل الإدارة الأميركية في مواجهة مباشرة مع القيادة الإيرانية الجديدة، ذات الشعبية الجارفة آنذاك “حتى عند العرب”.
فرح الشارع العربي -بمختلف أطيافه السياسية والدينية- بانتصار الثورة إلا رجل واحد، قرأ التحولات بشكل مختلف؛ إنه المفكر القومي العربي قسطنطين زريق؛ إذ حدثني صاحبي اليساري قائلاً: بعد انتصار الثورة الإيرانية كنا سعداء بها؛ ومنحتنا الأمل بالتغيير؛ فأردنا زيارة المفكر زريق لنقف على رأيه في ما حصل. دخلنا عليه في بيته؛ وفورًا حدثناه عن سعادتنا بانتصار الثورة، وما ستحمله من إيجابية للمنطقة، تبعث فيها روح التمرد من جديد؛ ففاجأنا المفكر قسطنطين زريق بقوله: لا تتفاءلوا كثيرًا! لقد بدأ عصر الذبح؟ فسألتُه: كيف ذلك؟ قال: ستبدأ ثقافة جديدة في المنطقة من خلال صراع فوضوي؛ الذبح عنوانها الرئيس؟
الإدارة الأميركية أدركت خطورة مآلات تصدير الثورة، فوضعت خطتين مهمتين لمواجهتها: الأولى: مواجهة عسكرية عاجلة، يقوم بها طرف تدعمه الإدارة الأميركية بشكل غير مباشر. والثانية مواجهة أيدلوجية، يجب أنْ تختار لها فريقًا يتمتع بعناد تاريخي واعتقادي وأيديولوجي ضد التشيع.
أما المواجهة العسكرية
فقد كان صدام حسين وسيلتها والعراق ضحيتها؛ ونتيجة اتهامات متبادلة بين الطرفين العراقي والإيراني، حول اختراقات حدودية وتجاذبات عسكرية؛ انهار اتفاق الجزائر بينهما؛ لتندلع حرب، استطاع البيت الأبيض إدارة ملفها بخبث؛ لتخرج أميركا المنتصر الوحيد من تلك الحرب التي استمرت قرابة ثماني سنوات من أيلول/ سبتمبر 1980، حتى آب/اغسطس 1988، قضت على كل إمكانية للتنمية في هذين البلدين الناشئين؛ علاوةً على إثارة أحقاد قومية تاريخية بين العرب والفرس! والأخطر كان إعادة إنتاج صراع طائفي (سني شيعي)؛ بسبب تلك الحرب. والغريب أن صدام حسين تولى رئاسة العراق في تموز/ يوليو 1979 مع بداية عصر الذبح، وقبيل انتصار الثورة الإيرانية بقليل.
تحول العراق نتيجة تلك الحرب إلى دولة شبه مفلسة، تعتمد على المساعدات الخليجية، وأُضعفَ الجيشُ العراقي الذي كان يعدُّ من طليعة جيوش المنطقة؛ والأهم إشغال إيران عن إيديولوجية تصدير الثورة التي كان هدفها الاستراتيجي السيطرة على القرار العربي. فإنْ لم يحصل ذلك، لابد من إقلاق راحة العرب! ومنذ انتصار الثورة الإيرانية حتى يومنا هذا؛ لم ترتح المنطقة العربية؛ ولعبت الإدارة الأميركية على الطرفين المتصارعين، وبعد ثمانية أعوام، انتهت الحرب بلا خاسر ولا رابح (كما قيل)، كان ضحيتها أكثر من مليون إنسان من الجانبين، أُطلق عليها اسم (حرب الخليج الأولى).
ثم أُعيد إشغال العرب والعراق في حرب أخرى (حرب الخليج الثانية)، من 17 كانون الثاني/ يناير، إلى 28 فبراير/ شباط 1991، أتت على ما تبقى من دولة العراق؛ نتيجة تحرشات، كما ادعى صدام حسين في لقائه مع السفيرة الأميركية لديه آنذاك، غبرييل غلاسبي، قبل أسبوع من اجتياحه الكويت؛ حين أبلغها انزعاجه من تجاوزات الحكومة الكويتية في خصوص المصالح العراقية؛ فأجابته قائلة: إن هذا صراع عربي- عربي، ولا علاقة للإدارة الأميركية به.
فهم صدام حسين كلامَها بأنه ضوء أخضر لاجتياح الكويت؛ لكنه في الحقيقة كان طُعمًا؛ ابتلعه صدام بسهوله؛ ليأتي على ما تبقى من العراق الدولة الفتية الناشئة، ثم لينهار نظامه عام 2003، الذي بات يشكل خطرًا ما على إسرائيل وأميركا؛ ليبدأ عصر آخر للذبح سنأتي عليه لاحقاً.
لقد نجحت الولايات المتحدة الأميركية من خلال إدارتها لحرب الخليج الأولى؛ بتأسيس عصر الذبح؛ وبعد سقوط العراق 2003، ازدادت وحشية الذبح من خلال صراع عراقي- عراقي، بين السنة والشيعة، ربما بلغ عدد ضحاياه أكثر من عدد ضحايا حرب الخليج الأولى؛ لتصبح المنطقة أكثر قبولًا لثقافة الذبح، وتمت أدلجة تلك الثقافة من خلال العامل الثاني المتمثل بالمواجهة الأيديولوجية.
المواجهة الأيدولوجية
مواجهة تصدير الثورة أيديولوجيًا تمثلت من خلال الفكر الشرس (السلفية = الوهابية) في مقاومة ظاهرة التشيع التي تلت الثورة الإيرانية في البلاد العربية؛ ولا بد من داعم حقيقي للسلفية في مواجهتها لتصدير الثورة؛ فكانت المملكة العربية السعودية هي الضالة المنشودة آنذاك، لكونها أُسست -تاريخيًا- على تحالف ما بين الإمام محمد بن عبد الوهاب والأسرة السعودية. والدور السعودي -آنذاك- كان في حالة تصاعد مستمر، مقابل انكماش كبير لدور مصر بعد (كامب ديفيد). أما علماء السعودية فبدأ تسويقهم إعلاميًا؛ ليكونوا المرجعية العقائدية والفقهية والدعوية لمن يتخذ السلفية الجديدة منهجًا.
بدأت تظهر، في عام انتصار الثورة الإيرانية، بوادر ما سُمي بالصحوة الإسلامية، في الدول الخليجية خصوصًا، والدول العربية عمومًا؛ حيث بلغ التيار الديني منتهى مدّه؛ هنا ظهرت السلفية الجديدة، بمرجعية لها مكانتها في العالم الإسلامي، متمثلة بهيئة كبار العلماء، وعلى رأسهم الشيخ عبد العزيز بن باز، مفتي المملكة؛ ودعاتها الجدد (سفر الحوالي، وسلمان عودة، وعائض القرني، وعبد الوهاب الطريري، وغيرهم) الذين ملأوا العالم الإسلامي بأشرطتهم المسجلة، محذرين من مدّ شيعي إيراني، يريد القضاء على أهل السنة، والسيطرة على بلدانهم سياسيًا وعقائديًا. والحقيقة -كما أراها- أن إيران استخدمت التشيع قفازًا؛ للتغلغل عربيًا، حتى تحقق مشروعها القومي ذا الجذور الفارسية؛ فأنهت التشيع العربي، ونقلت المرجعية الشيعية -مكانيًا- من النجف العراقية إلى قُمْ الإيرانية.
بدأت الملحقيات الثقافية في السفارات السعودية في العالم؛ تتحرك بشكل مذهل ومنظم؛ لتدعم التوجه والامتداد السلفي، في كل بقعة جغرافية يوجد عليها، بسخاء؛ حتى يتم إحياء سلفية جديدة؛ هدفها السياسي الحد من تصدير الثورة، بمقاومة ظاهرة التشيع عربيًا، وهدفها العقائدي تصحيح الاعتقادات الخاطئة في المجتمعات العربية المتدينة صوفيًا وأشعريًا، وخلال مرحلة الثمانينيات، وحتى مطلع التسعينيات، كانت السلفية الجديدة المتصدر الأول للمشهد الدعوي إسلاميًا.
ولكنْ في مرحلة ما، فإن المارد الذي تصنعه ويكبر كثيرًا؛ قد يخرج عن سيطرتك؛ لينقلب عليك. والسؤال الأهم، ونحن نتحدث عن عصر الذبح: كيف وُلِدتِ السلفية الجهادية العالمية؟