هموم ثقافية

الآثار السورية في مهب الريح

تتميز الآثار السورية بعراقتها وقِدمها؛ بفضل غنى مواقعها الأثرية، وامتدادها في أنحاء سورية، تاريخيًا وحضاريًا، وقد مرت بمراحل زمنية عديدة، منها مرحلة الرحالة الذين وصفوها وتغنوا بجمالها، ومرحلة المستشرقين الذين رسموا بعض المواقع الأثرية المهمة، وتوثيق العديد منها، ومرحلة الباحثين المختصين الذين كتبوا -كل باختصاصه- عن النقوش والكتابات الآرامية والنبطية والإغريقية واللاتينية والعربية، والمباني القديمة، والفن المعماري الجميل المنتشر على امتداد سوريانا، ومرحلة تكوين بعثات علمية، عالمية ومحلية، تتميز بتشكيل فريق متكامل، يضم عديد المختصين في الحفريات والتنقيب الأثري، ورافقها إحداث المتاحف في الأبنية القديمة، وبناء متاحف جديدة، وإحداث دوائر للآثار في جميع المحافظات السورية.

 

وقد مرت المديرية العامة للآثار والمتاحف في سورية بمراحل متعددة، منها ما صُبغ بصفة التميز والإخلاص والجدية في العمل، كأيام المرحوم سليم عادل عبد الحق، والدكتور عفيف بهنسي، وفي هذه المرحلة، كان همّ أغلب المختصين ترميم المواقع الأثرية، مثل ترميم مدينة تدمر، وقلعة حلب، والمباني القديمة فيها، وترميم المباني في دمشق القديمة، ومدينة بُصرى الشام، وبقية المواقع على امتداد بلدنا.

 

مرّت المديرية بمرحلة أخرى، تخللها تسلّق بعضهم المديرية العامة للآثار والمتاحف، من دون أن يكون لديه الخبرة العلمية والإدارية، وطغت الأنانية والانتهازية والشخصية على ممارساتهم وعملهم، وكذلك الفساد المالي والإداري؛ ما أدّى إلى تدني مستوى الاهتمام بالآثار والمواقع الأثرية، كما أدّى إلى سرقة قطع أثرية (بالمفتاح) من المتاحف، والعبث بمحتويات هذه المتاحف، وانتشار التنقيب غير الشرعي عن الآثار من قبل كبار الضباط السوريين، الذين عاثوا -بدورهم- فسادًا، وأظهروا جشعهم، وانعدام حرصهم على التراث السوري؛ فنهبوا القطع الأثرية وتاجروا بها، بالتنسيق مع بعض الموظفين في المديرية العامة للآثار والمتاحف في سورية.

 

كذلك انتشر في هذه المرحلة إنشاء الأبنية المُخالفة في المواقع الأثرية، بشكل أثر -في حقيقة الأمر- على كل آثار سورية، ولم تُظهر السلطات أي اهتمام بموضوع المحافظة على النسيج العمراني القديم، وانتشر الاعتماد على المتعهدين، ممن كان همهم الأول الربح الفاحش والسريع، واعتمدوا على الرشاوى في هذا المجال؛ لتسيير أمورهم؛ ما أدى -بالمحصلة- إلى سوء التنفيذ في العمل والبناء، وانعكس سلبًا على المواقع الأثرية وتشويه صورتها وجمالياتها، وأدّى كذلك إلى تجمّد عمل المختصين في الآثار، واقتصار عملهم على مراقبة الأعمال المُنفّذة من قبل المتعهدين. وكان هناك تناغم بين المدير العام والمتعهد في تقاسم الحصص، وفق النسبة والتناسب، وهذا الفساد الإداري انتشر متزامنًا مع تربّع هؤلاء الفاسدين أنفسهم على مراكز القرار، فحرصوا على تأمين مصالحهم الشخصية والحصول على أكبر منفعة من وراء مناصبهم، كالسفر إلى الخارج والمكافآت والامتيازات والتعهدات الجانبية، فأهملوا الآثار السورية على حساب اهتمامهم بالمصالح الشخصية، -وهي الحال التي شهدتها كل الوزارات والمؤسسات الحكومية السورية، ضمن سياسة الإفساد في جميع المجالات، كما ترافق مع تفاقم مشكلة البطالة عن العمل في جيل الشباب، المؤهل علميًا، وأصبح التوظيف بحسب المعارف والمحسوبيات، ومدى قدرة الموظف على الركوع للمدير؛ ما ساهم في إيجاد بيئة خصبة انفجارية في كل المناحي الحياتية في سورية، أدّت إلى إشتعال فتيل الثورة.

 

اشتعلت الثورة في مدينة درعا وامتدت إلى باقي المدن والقرى السورية، وهنا كان الضحية الأساسي هو الإنسان السوري، حياته وماله وحاضره ومستقبله، كما كانت المواقع الأثرية جزءًا من الضحايا، لما تعرّضت له من نهب للمتاحف، وتدمير للمواقع الأثرية، من قلاع ومبان قديمة، ومن كنائس ومساجد ومعالم أثرية، يرجع تاريخها إلى حقب زمنية مديدة.

 

فقد تعرّضت مدينة ماري الأثرية، مثلًا، والتي يرجع تاريخها إلى ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد؛ حيث كان اسمها تل الحريري – تبعد نحو 11 كم عن مدينة البوكمال شرقي سورية- تعرضت للعبث بآثارها وسرقة أوابدها، ولحفريات عشوائية مُخيفة، كذلك دُمرت مئذنة الجامع الأموي في مدينة حلب، وهو أكبر جامع أثري يقع في المدينة القديمة، المُسجّلة على قائمة التراث العالمي في منظمة اليونسكو، ودُمرت أجزاء من الجامع نفسه أيضًا، وحُرقت أجزاء كبيرة من السوق التجاري الأثري القديم النادر الذي يحيط به، وكذلك تدمير أحد أبراج قلعة حلب الشهيرة؛ فضلًا عن الكثير من المباني الأثرية. كما استهدف الطيران قلعة سمعان (دير القديس سمعان)، وأحدث أضرارًا بالغة، ودمّر أجزاء من البناء الأثري الذي يعود إلى العصر البيزنطي، كما خُرّب جامع خالد بن الوليد في مدينة حمص؛ نتيجة قصفه بالأسلحة الثقيلة -وهو الذي يعود إلى القرن السابع الهجري (13 م)- ويعود بناؤه الحالي إلى العهد العثماني -أيام السلطان عبد الحميد الثاني- حيث أعيد بناؤه على أنقاض الجامع المملوكي. وكذلك قصفت قوات النظام كنيسة أم الزنار (كاتدرائية السيدة العذراء) في حمص، ما أدى إلى احتراق وتدمير أجزاء منها، وهي كنيسة أثرية تُعدّ مقرًّا لمطرانية السريان ومركز حج لكثير من الزوار، وتعدّ من أقدم الكنائس السريانية الأرثوذكسية في المدينة، وكذلك دُمر العديد من المباني القديمة في حمص نفسها، كقلعة الحصن؛ حيث قصفها طيران النظام ودمّر أجزاءً منها، وهي القلعة الفريدة المسجلة على قائمة التراث العالمي في منظمة اليونسكو، وتعود إلى العصور الوسطى.

 

كذلك في مدينة بُصرى الشام القديمة، المسجلة في قائمة التراث العالمي في منظمة اليونسكو، قصفتها قوات النظام؛ فدمّرت الجزء العلوي من الكليبة (سرير بنت الملك)، والتي تعود إلى العصر الروماني، وأجزاء من الجامع العمري الذي يعود إلى العصر الأموي. وكذلك تم قصف جامع “مبرك الناقة”، وتدمير أجزاء من المبنى الذي يعود إلى صدر الإسلام والعصر الأموي والعصر العباسي، والمدرسة التي تعود إلى العصر السلجوقي. وقُصفت الكاتدرائية ودُمرت أجزاء منها، حيث يعود تاريخها إلى العصر البيزنطي، وعمارتها أُنجزت في القرن السادس ميلادي، كما دُمر النسيج العمراني القديم في المدينة.

 

وتعرضت مدينة تدمر، المسجلة في قائمة التراث العالمي في منظمة اليونسكو، للقصف والتدمير؛ حيث دُمرت أجزاء كبيرة من معبد بل، الذي يعود إلى العصر الروماني، ومعبد بعل شامين بالكامل، ويعود إلى العصر الروماني، وكذلك سبعة أبراج من القبور تم قصفها وتدميرها، إضافة إلى تدمير قوس النصر الذي يُعدّ المدخل الرئيس للمدينة الأثرية.

 

هذه أمثلة أوّلية سريعة، تُعطينا فكرة عن حجم الهمجية التي مُورست ضد الآثار السورية، والتدمير الذي تكبدته هذه الآثار، والتي ترافقت مع تدمير وقتل الإنسان السوري الذي يحمل بفكره وثقافته هذا التراث نفسه؛ من حضارات ولغات قديمة، وفلسفة وثقافة عميقة، تعود إلى جذور التاريخ القديم.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق