أدب وفنون

نهد الأرض والعودة الموعودة

ذات يوم يتلقى أحمد برقاوي، الشاعر والفيلسوف والكاتب، المولود في ضاحية الهامة قرب دمشق، هذه الرسالة: “أبلغكما رسالة لكَ وليوسف سلامة مفادها: أنتما فلسطينيان، اهتما بقضيتكما (فلسطين) ودعوا الشأن السوري، وإلا.”.

 

وإلا..! رسالة إنذار وتهديد لا تفتقر إلى أكثر من هذا الوضوح، نقلها في أثناء ربيع دمشق -أي: بداية الألفية الراهنة- واحد من رجال أمن النظام الأسدي؛ كان يحمل آنئذ صفة (رئيس مركز الدراسات الاستراتيجية) بجامعة دمشق!

وعلى أنه ولد ونشأ وعاش في سورية؛ لم يكن أحمد برقاوي ينتظر من يُذكِّرَهُ بما كان يسري مع دمه؛ في عروقه، أي: فلسطينيته. لا لأنه كان قد سمع أكثر من مرة، وفي مناسبات مختلفة، من فم أمثال ساعي البريد هذا، الكلمة التي عنتها رسالته من دون أن تلفظها صراحة: لاجئ فلسطيني، بل لأن أبويه اللذين وجدا نفسيهما فجأة لاجئيْن، لم يكفّا عن عيْش فلسطين، منذ أن انتقلا من قرية ترشيحا -حيث كان يعمل الأب- إلى الحمّة أولًا، فالهامة تاليًا؛ على أمل العودة القريبة والموعودة، كما لو أن ابنهما أحمد كان يتلقى من ثدي أمه، ومن حنان أبيه، غذاءه الفلسطيني اليافاوي والعكاوي معًا. فأمه يافاوية، وأبوه عكاويّ من قرية ذنابة، التابعة إلى محافظة عكا. هكذا، لم يولد أحمد برقاوي في فلسطين، بل فلسطين هي التي ولدت فيه.

 

لكنه سوري المولد والشعور أيضًا؛ وهو ما كان يفاقم الجرح الذي تسببه له هذه الصفة حين تصدر، لا عن عامة السوريين الذين يعرف أنهم كانوا -على اختلاف انتماءاتهم الاجتماعية- قد هرعوا لنجدة فلسطين عام 1948، ثم فتحوا أذرعهم على الرحب والسعة؛ لاستقبال من لجأ إليهم من أهلها، بل عمّن يلوذ بسلطة اتخذت من قضية فلسطين تجارة رابحة؛ للحفاظ على كرسيها ومكاسبها. يمنحه هذا الانتماء إلى أرض مولده حرية لا يملكها الآخرون؛ حرية تعالى بها على جراح، لن تلتئم طوال نيف وستين عامًا، حتى حقق في عام 2012 ما كان يريده: العودة.

 

سوى أنها ليست كالعودة التي كان يتطلع إليها والداه من قبل؛ استجابة لنداء مرابع طفولتهما وحنينًا إليها، بعد أن حال بينهما وبينها الاحتلال الصهيوني، بل هي عودة من شُغف حبًا بأرض لم يرها، لكنه كان يتوق إليها توق العاشق المُتيَّم؛ لا يني يستدعي نفسه في تاريخها، وفي جغرافيتها، وفي أهلها الذين ينتمي إليهم؛ يحاورهم ويحاول -بكل ما يتيحه له عنفوان الطفولة والشباب- أن يدافع عنهم، وأن يطرح، وهو طفل في الخامسة عشر من عمره، سؤالًا ساذجًا في ظاهره، عميق الأبعاد في معانيه، سوف يعيد طرحه عليه -بالكلمات ذاتها- فيلسوف روسي في العقد السادس من عمره: لماذا لا تهجمون على إسرائيل في ليلة واحدة وتنتهون منها؟ يريد رؤية البيت الذي رأى مولد أبيه؛ فيحاول الحصول على صوره بكل وسيلة متاحة، ثم يستعين بما تتيحه له الشبكة الرقمية من إمكانات هائلة؛ كي يعثر على صور البيت والقلعة والقرية والمدينة، وكل المرابع التي ارتادها أو عرفها والداه من قبل. وها هي الفرصة -التي كان ينتظر معجزتها- تلوح له من حيث لا يحتسب؛ وهو يعيش في القاهرة أيام ثورات الكرامة التي انطلقت من تونس قبل نيف وخمس سنوات، كي يولد ثانية.

 

كان لابد له مع ذلك؛ من أن يعيش غِبطة الممكن وهلع المستحيل، بينما يحاول الحصول على التصريحات الضرورية للسفر إلى وطنه، إلى مسقط رأسه الحقيقي، إلى الأرض التي شغفته حبًا، إلى الأرض التي سوف تنزع عنه صفة اللاجئ حين يضع رأسه على صدرها. ألم يرفض أن يوضَعَ البيتُ، الذي سكنه أبوه مثل غيره من البيوت التاريخية، تحت تصرف أي مؤسسة تراثية فلسطينية تريد استخدامه؛ لأنه عائد كي يعيش فيه؟ تلك هي العودة المأمولة والموعودة إلى ما أطلق عليه أحمد برقاوي “الرحم الحميم”.

 

رحلة وجودية بامتياز، وعودة تتحقق في شهر مولده، أي في شهر نيسان/ أبريل -أيضًا- كما لو أنه على موعد مع قدر بات حليفه الشخصي؛ إذ يغمره سعادة، لقاءَ شغفه، واستجابة إلى حبّه.

ها هو -على درب الفرح والآلام في آن واحد- ينطلق مع جمهور غفير ممن كانوا رفاق الرحلة من الفلسطينيين، من دمشق باتجاه الأردن، ثم باتجاه فلسطين. كان عليه أن يعاني ما يعانيه كل فلسطيني -منذ النكبة- على أي حدود عربية أو أجنبية يريد عبورها، من مصاعب الرقابة والتفتيش، واحتمال رفض دخول البلد الذي يقصده. لكن الأسوأ كان عبور الحدود إلى موطنه المغتصب، إلى أرضه المستباحة. هكذا احتاج الطريق الذي كان يمكن اجتيازه في خمس ساعات إلى أربع وعشرين ساعة، بسبب الوقوف عند أربع نقاط حدودية، إحداها عدوة، والأخرى لم تكن بالضرورة صديقة كلها!

أمرٌ أساسٌ في هذه الرحلة، لا يمكن أن يُنسى -ولو إلى حين- مادام العدو هو من يُصرِّحُ لك بزيارة وطنك. يسأل أحمد: وماذا لو بقينا هنا، ولم نعد من حيث أتينا؟ ويأتيه الجواب: يتم ترحيلك ما إن يُكتشف أمرك. هو ذا موجز المأساة.

 

تطأ قدماه رام الله للمرة الأولى. ها هو في فلسطين. وها هي (جمالية الانتظار) التي يتوارثها الفلسطينيون، تتلاشى في نفسه؛ فيما يغيب “عنف اللامكان” كلياً. هنا المكان بامتياز. سينطلق من رام الله إلى (ذنابة)، حيث (نهد الأرض) الذي يسعى إليه. وسوف تعانق نظراته على الطريق الوديان والجبال والسهول والينابيع في ربيع فلسطين المزهر، التي وإن كان يراها هي الأخرى للمرة الأولى، لكنها تذكره بتلال أنطاكية وينابيعها. الوطن واحد، على الرغم من كل شيء!

 

وهنا -في المكان- لا حاجة به إلى من يدله إلى بيته. يراه عن كثب؛ فيسعى إليه -دامع العينين- وقد غمره الفرح والحزن والتوتر. يقول ما يتفجر في عروقه: أنا هنا. أنا الفلسطيني في فلسطين. لستُ لاجئاً هنا، لا، ولا طارئًا.

وتتألق فلسطين في روح أحمد برقاوي وفي عقله، برموزها وبأحداثها وبوجوه نسائها ورجالها، شبابًا وكهولًا وشيوخًا، كلما رأى وجهًا من وجوه مواطنيه، وكلما عانقت عيناه منظرًا وهو في طريقه إلى بيته الأول.  يتنقل بين القرى التي عاش فيها أجداده، ثم يسعى إلى الوقوف عند ضريحيْن يضمان أيقونتي فلسطين: “البطل التراجيدي” ياسر عرفات، والشاعر محمود درويش. كلاهما جعل فلسطين على كل شفة ولسان، وفي العالم أجمع.

 

(نهد الأرض) حكاية رحلة إلى الجذور من أجل تسجيل الولادة في مكانها الطبيعي، واستعادة بيت بدا وكأنه ينتظر صاحبه منذ زمن بعيد، كي يضمه في حناياه.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق