لا شك في أن سورية ستدخل عاجلًا أم آجلًا مرحلة انتقالية، الغاية منها التأسيس لاستقرار سياسي واجتماعي واقتصادي وغيره، يقود إلى عهدٍ جديد تبدأ فيه الدولة بإعادة هيبتها الداخلية والخارجية، بعد أن وضعها استبداد النظام السوري في مطحنة حربه على شعبه؛ ما أدى إلى تفتيت ما بقي منها -أصلًا- غير مفتت، بعد سنوات عجاف من حكم هذا النظام الذي استهلك الدولة، وجيّرها لصالح بقاء سلطته، وتدلّنا تجارب الشعوب على أنه لا يمكن نجاح عملية سياسية انتقالية، بوضع مقارب، أو مشابه لما مرت به سورية، دون تحقيق عدالة انتقالية.
قد تكون هذه الحرب التي واجه بها النظام السوري الشعب الثائر، منذ آذار/ مارس 2011، واحدة من أسوأ الحروب الكارثية التي ستخلّف وراءها تركة ثقيلة على عدة مستويات، إن لم تعالج بشكل سليم، وذلك بعدما أدّت إلى انقسام عمودي في بنية المجتمع، من حيث التركيبة الدينية والإثنية والمناطقية، علاوة على تدمير مدن وقرى ومناطق بأكملها، وتخريب البنية التحتيّة بشكلٍ شبه كامل، وكذلك الموارد الحيويّة والمالية التي جعلها النظام جزءًا مهمًّا من حربه، إمّا من خلال استعمالها واستهلاكها كأداة بيده، أو من خلال استهدافها بنيرانه وتعمد تدميرها، وفي الحالتين كليهما، استُنزفت بنية الدولة والمجتمع.
العدالة الانتقالية وأدواتها
إن انتقال الدول والمجتمعات من حالة حرب، إما داخلية بين مكوّناتها، أو حرب تحرير وطنية، إلى حالة سلم وحرية، أو الانتقال من سلطة سياسيّة غاشمة ومستبدة إلى مرحلة ديمقراطية، يتطلّب -بالتوازي- ترميم ما لحق من أذى بالمجتمع، الذي سيكون الحاضن والفاعل والمنفعل في تلك العملية بكل تعقيداتها، ولا يمكن المضي فيها بنجاح، حتى لو كان نسبيًا، إلا من خلال المرور بما اتُّفق على تسميته بالعدالة الانتقالية.
عُرّفت العدالة الانتقالية من المفوضيّة السامية لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة، على أنها “الآليات القضائية، وغير القضائية على السواء، بما في ذلك مبادرات الملاحقة القضائية، والجبر، وتقصي الحقائق، والإصلاح المؤسسي، أو مزيج من ذلك”، أي أنها المبادرات والقرارات التي تساعد في تحقيق العدالة، خلال مرور المجتمع بتلك الفترة الانتقالية الضرورية التي ذكرناها.
جرائم النظام المتعددة
عَرفت سورية -خلال عقود من حكم النظام الحالي- مآسٍ متعددة، ولعلّ أهمّها ما ارتُكب في مدينة حماة من مجازر عام 1982، والتي مازالت آلاف الأسر تعاني من آثارها الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية، ولم تُفتح أوراق ذلك الضرر الذي وقع، ولم يُحاوَل الجبر فيه، أو إيجاد آليات محددة للتخفيف منه، كذلك مجزرة جسر الشغور في إدلب، ومجازر حلب عام 1980 وغيرها، يضاف إلى ذلك أيضًا، ملفات كثير من المفقودين داخل معتقلات النظام؛ فهذه المعتقلات ليست سجونًا، بقدر ما هي أماكن انتقام وتصفية نفسيّة وجسديّة، وهنا تبرز مجازر وجرائم دمويّة جماعيّة داخل السجون، أشهرها ما جرى في سجنَيْ تدمر عام 1980، وصيدنايا عام 2008، ومن المُرجّح عند فتح سجل جرائم النظام المرتكبة بحق المجتمع السوري ، بما فيها الاستيلاء على بعض الممتلكات الخاصّة، ومنع التوظيف تحت عناوين وحجج غير قانونية، وكثير من ذلك؛ سنصل إلى ملفٍّ متكاملٍ وواسعٍ، يُضَمّ إلى جرائم الحرب المرتكبة ما بعد قيام الثورة السورية، في آذار/ مارس 2011، وصولًا إلى لحظة انطلاق أي عملية انتقالية مقبلة، ويُشار -هنا- إلى أنه لا يمكن تطبيق العدالة بشكلها الحرفي والكامل، فالعدالة القانونية المألوفة، المعتمدة على القوانين المعروفة وغيرها، ليست هي ما يلائم العدالة الانتقالية، وإنما “مقاربة العدالة” بحسب المركز الدولي للعدالة الانتقالية (ICJT)، وبحسب الأمم المتحدة التي تصفها بأنها “توفير سُبل الانتصاف للضحايا، وتعزيز التعافي والمصالحة، ووضع رقابة مستقلّة على النظام الأمني، واستعادة الثقة في مؤسسات الدولة، وتعزيز سيادة القانون. ولاحظَت -أيضًا- أن هذه النُهج تشمل عمليات لتقصي الحقائق، بما فيها العمليات التي تمثّل فيها أنماط التحقيق في انتهاكات القانون الدولي لحقوق الإنسان، والقانون الإنساني الدولي في الماضي، وأسبابها وعواقبها، أدواتٍ مهمةً، يمكن أن تكون مكملة للإجراءات القضائية”.
جبر الضرر وأهمية تطبيقه
إن الوصول إلى مقاربة ما للعدالة في المرحلة الانتقالية، من أهم الأساليب والوسائل المساعدة، تيسّر الانتقال من مرحلة سلبية، إلى مرحلة إيجابية؛ للمضي بتأسيس أو تنظيم مؤسسات الدولة بشكل سليم، وهنا، يمكن أن تظهر أهمية مصطلح “جبر الضرر”، وهو، كما ورد في المركز الدولي للعدالة الانتقالية: “تعترف الحكومات -من خلاله- بالأضرار المتكبَّدة، وتتّخذ خطوات لمعالجتها، وغالبًا ما تتضمّن هذه المبادرات عناصر مادية كالمدفوعات النقديّة أو الخدمات الصحيّة، على سبيل المثال، فضلًا عن أشكال رمزيّة كالاعتذار العلني أو إحياء يوم للذكرى”.
يمكن عدّ الحرب العالمية الثانية في أوروبا أحد المفاصل التاريخية، التي انطلقت -بعدها- مسألة إعادة تنظيم قوانين الدول ومؤسساتها، وخاصة بعد مرحلة النازية، وابتدأت مرحلة جديدة، تأخذ طريقها، في الوقت الذي أصبحت فيه الأمم المتحدة منبرًا سياسيًا دوليًا، له طابع قانوني، كسلطة تخرج عنها قرارات دولية، بعضها مُلزم، وبعضها غير مُلزم، ومع تقدم مفهوم حقوق الإنسان، والسعي للوصول إلى مجتمعات أكثر تسامحًا وأقل عنصريّة، كان هناك -في المقابل- جرائم تُرتكب ضد الإنسانية في كثير من البلدان، ولكن بعد مسارٍ مضنٍ في بعض تلك الدول والمجتمعات، اعتُمدت -بعد حروبها- مسألة العدالة الانتقالية، ومنها: تشيلي والسلفادور ورواندا وجنوب إفريقيا وغيرها، أما في المنطقة العربية، فلا يمكن إدراج أي تجربة كمثالٍ وأنموذج، حتى بعد مرحلة اتفاق الطائف وانتهاء الحرب الأهليّة اللبنانية؛ فهي تجربة -حتى الآن- لم تكتمل بشكل سليم، وليست أنموذجًا يحتذى، على الرغم من بعض المصالحات الداخلية.
العدالة الانتقالية والمستقبل
يمكن القول إن تجربة سورية، بكل ما مرّت فيها من آلام، ولكونها ثورة شعبيّة، وليست حربًا أهلية بالمعنى الدقيق للكلمة، ولأن أغلب الجرائم المرتكبة اقترفتها الفئات والعناصر والتنظيمات العسكرية وغيرها، تحت رعاية سلطة الاستبداد ولأجلها؛ فإن هذا الانقسام الحاد في المجتمع، الذي يبدو معقدًا، ستكون معالجته أكثر سهولة بعد انتهاء حقبة نظام الاستبداد، والبدء بمرحلة انتقالية، وذلك، إن اعتُمدت مسألة العدالة الانتقالية؛ لضمان عدم ضياع الحقوق للأفراد والجماعات، بعيدًا عن الثأرية والانتقام، وفتح باب الملاحقات القضائية والتعويضات، وإشهار الحقوق لأصحابها، بالسير -بشكل متوازٍ- مع خطوات مصالحة وطنية، مبنيّة على برامج وخطط واضحة، تقدّمها مجموعة من المختصين، ليس بالقوانين فحسب، وإنما بعلم المجتمعات وتركيبتها ومعتقداتها وعاداتها وهواجسها كذلك؛ كي لا تبقى نار تحت الرماد؛ فسورية المرتقبة، إن أرادها السوريون دولة عصريّة، مستندة إلى عمقها الحضاري الممتد لآلاف السنين، يجب أن تنطلق من فكرة أن حكم هذا النظام مرحلة استثنائية من مراحل الدولة السورية، وأن مسألة تجاوزها مسألة وجوديّة في مسيرة إحياء الدولة والمجتمع.