سورية الآن

شاب رأس أوباما!

شيّبت الكارثة السورية المتفاقمة على مدى السنوات الخمس الماضية، رؤوس ملايين الرجال والنساء في البلد الذي تحطمت فيه كل مناحي الحياة الاعتيادية، وابيضّ شعر الكثيرين في هذه المنطقة، ممن روعتهم سلسلة لا نهاية لها من المجازر المتنقلة، ومشاهد قتل الأطفال والنساء بسادية مفرطة، إلى الحد الذي صار فيه المرء يحمد الله إذا قل عدد الضحايا في يوم واحد عن خمسين، لاسيما أن عداد الموت يخطف، في المتوسط، نحو مائة وخمسين نفسًا في اليوم الواحد.

 

لا أحد يحفل في بلادنا بظاهرة الشيب الملازمة للتقدم في خريف العمر، حتى وإن بدأت الخطوط الفضية تتسلل مبكرًا إلى المفارق الشابة. ولا أحسب أن أحدًا من الرجال، على وجه الخصوص، يعيّر غيره باشتعال الرأس قبل الأوان، اعتقادًا من البعض أن الشيب مظهر من مظاهر الهيبة، ودليل على بلوغ سن الحكمة والرشد. ومن منا لا يتذكر المطرب العراقي الراحل ناظم الغزالي وهو يصدح: عيرتني بالشيب وهو وقار… ألا ليتها عيّرت بما هو عارُ.

 

على هذه الخلفية، بدت أحزان الرئيس الأميركي باراك أوباما، مثيرة للدهشة، وباعثة على التندر لدى أوساط النخب العربية، حين راح “يولول” شاكيًا احتدام الشيب في رأسه، وكأنه يود الاعتذار للأميركيين عمومًا، ولأفراد أسرته الصغيرة خصوصًا، عما ما فعلته النوائب في محياه، لاسيما وأن بياض الرأس يكاد يكون السمة العامة لدى السياسيين والمثقفين ورجال الأعمال عمومًا، ممن يهدهم الهمّ والغمّ، ويداهمهم الشيب قبل أن يأكل عليهم الدهر ويشبع.

 

وكان لافتًا أن يحيل الرئيس أوباما بياض شعر رأسه إلى سبب واحد لا غير، ألا وهو الحرب السورية، التي تسبب هو نفسه، أكثر من أي زعيم ذي صلة، في إطالة أمدها أكثر مما ينبغي، وتحويلها من أزمة داخلية محدودة النطاق، قليلة المضاعفات، إلى عقدة دولية خارجة عن السيطرة، بعد أن غدت البلاد الشامية ساحة مفتوحة أمام لاعبين محليين وإقليميين ودوليين، كل له أجندته الخاصة، وحساباته الذاتية، ومصالحه الأوسع رقعة من حدود الميدان السوري.

 

ولن نضيف شيئًا إذا قلنا إن سياسة عدم التدخل التي انتهجها أوباما إزاء البلد العربي المنكوب، وتجاهله للخطوط الحمراء التي كان قد رسمها بقلمه على الهواء، ناهيك عن عمليات الاسترضاء المستمرة لخصومه الإيرانيين والروس، هي التي جعلت سورية بلدًا مستباحًا أمام الضباع والثعالب والكواسر، وموضعًا مثاليًا لاستعراض القوة العسكرية (روسيا)، وفرض النفوذ والهيمنة الإقليمية (تركيا)، وحدث ولا حرج عن الأطماع التوسعية الإيرانية الإمبراطورية.

 

من المثير للسخرية حقًا أن الرئيس الأميركي المغادر عما قريب، لم يرَ من نتائج الحرب على سورية غير نتف البياض المتفرقة في رأسه، فبدا بذلك شديد الأنانية، لا يهمه من كل هذه النتائج الكارثية للحرب إلا ما ألحقته بشعره، أو كمن لا يحفل سوى بمظهره الخاص عشية تقاعده الوشيك، من دون أن يسأل نفسه عن افتقاره للزعامة، أو يحاسبها على السياسة الانسحابية التي أدت إلى قتل نحو نصف مليون آدمي، ودمرت البلاد والعباد، والحبل على الجرار.

 

ومع أن المهتمين بمظهر أوباما الخارجي لاحظوا أن الشيب بدأ يغزو شعر أول رئيس أميركي من أصول أفريقية، بعد نحو أربعين يومًا من دخوله البيت الأبيض، وأن هذا الاشتعال المفاجئ بدأ يلفت الأنظار في أوساط مساعديه، الذين اتهموا حلاق أوباما الخاص بتدبير الأمر، حتى يبدو الرئيس الشاب أكثر وجاهة؛ إلا أن الرجل كان يقول لمعجبيه إن الأمر طبيعي، مرده تلك الجينات المتوارثة في السلالة، قائلا إن جده لأبيه أخذ يشيب وهو في التاسعة والعشرين من عمره.

 

على أي حال، فإن بياض شعر أوباما بعد قضاء ثماني سنوات في البيت الأبيض، وهي سنوات كأنها لم تكن بالنسبة لمعظم العواصم المصدومة بهذا الخواء على المستوى القيادي، مسألة ما كانت تستحق الاهتمام، ولا أن يخصص لها أكثر من خبر صغير في صفحة المنوعات الخفيفة، لولا أن الرئيس الذي خيّب آمال من تفاءلوا بمقدمه الخارق لتقاليد الطبقة السياسية الأميركية، وصدقوا وعوده الكثيرة، صدمهم خواء أوباما، الذي لم يرَ من بين نتائج الكارثة السورية سوى بياض شعر رأسه.

Author

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق