تظل الصرخات أسلوب الدفاع الوحيد للمنسيين خلف عتبات الألم في سورية، داخل حدود الحصار تكتسب الحياة مهارات جديدة في ترويض البشر، وإزاحتهم نحو أمزجة مرضية، تبدو في أبسط حالاتها تبني صداقة مع الموت، الفارق الوحيد الذي يتمدد أمام انحسار أنفاس من يرقد على تلال الوجع هناك، عميقًا في جغرافية الحصار.
“غنى” تصرخ من ألمٍ، مركزه عظم الفخذ في الساق، لكن أطرافه تمتد وصولًا حتى الأحداق، لم يحتج كل هذا الكم من الألم أكثر من رصاصة قناص، شعر بالملل؛ فقرر -فجأةً- أن يهدي ملله ابتسامةً عريضة، لا لشيءٍ، سوى الانتشاء بضحيته الجديدة، داخل بلدة مضايا بريف دمشق، ولم تنجح صرخات الطفلة التي لم تتجاوز العاشرة، وبضع مجازر، في إيقاظ شعور الذنب لدى القتلة، من مصيرٍ مشابه لأطفالهم قد يمر صدفةً، فيدفعهم ذاك الشعور؛ لفتح طريقٍ يسعف في تخفيف آلام غنى، وفشلت صرخات ألمها في ملامسة جدران الضمير المعلب للإنسانية المريضة، تتغذى على جثث إخوتها في سورية، وكانت أعجز من تحريض العالم؛ لإنقاذ ملامح الطفولة في هذا البلد.
لن تستغرق الصغيرة في محاولاتها تفنيد المشهد، كي تخبر القتلة مثلًا، أن سنواتها العشر -أو أكثر قليلًا- لا تٌشكل خطرًا على أوهامهم الكبرى، وعودها الطري أكثر ضعفًا من توجيه رصاصةٍ لمشاريعهم الصغرى، الرامية إلى سحق أحلام غنى، وإخوتها على امتداد خرائط المذابح في سورية، هي كانت وفيّةً لألمها وصرخت فحسب.
تعضّ طفلة دمشق على جراحها، تغرس جوارحها في حِجر الوالدة، تمسك بوشاح الأمومة، وتناجي الله في وحدتها، يقينًا بقدرها الذي لا مفر منه، وتحاول طفولتها الآن ترويض أنياب الحصار، وفق علاقةٍ معكوسة، يبدو فيها الموت خيارًا سيئًا، وتفضل الحياة ولو عن ألم.
لا تنتظر “غنى” اليوم على سرير ألمها دموع أحد، ولا تبحث عمّن يتفقد ما تبقى من مشاعره على قيد الإحساس، بل ربما تحاول -في صمودها- تعبيد الطريق بألمها نحو ثغرةٍ في حدود هذا الحصار المطبق، تكون قادرةً على إيصالها نحو أحد المستشفيات المعدومة في بلدتها الصغيرة على مشارف العاصمة.
ولن تدخل ابنة الأعوام العشرة في متاهات تعريف الوطن واكتشاف الهوية، وموقعها ضمن تلك الثنائيات، فلا شك في أن عمرها أعجز من استيعاب كيف يضيق الوطن لحدود، يبدو معها خائفًا من ألم طفلة، لا تريد شيئًا سوى بعض كبسولات المُسكّن، عوضًا عن أقراص الوهم المُباع على مدار أكثر من نصف قرن.
باختصار، مازال يعيش داخل بلدة مضايا الآلاف، يرون الموت يوميًا، يمرون بمحاذاته دون عناءٍ أو وجل، ومازال العالم يتفقد دهاليزه السفلية، ضمن معادلات إعادة إنتاج الرؤى الإمبراطورية على جماجم بشر ينتظرون، هنا، أولئك المُتبرجّين بحقوق الإنسان والمدنية، من أبناء جلدتهم خلف الحدود، وهم باقون مضرجون بالخذلان، يرقدون على أسرّة الأمل، ايقانًا بحتمية الحقيقة وزوال القتلة.