كلّ أغاني العالم تصنّف وفقًا للرؤية المراد تحقيقها أو الوصول إليها من خلال الأغنية، أو ربما تحيل المستمع إلى حالة شعوريَّة مرّ بها المؤلّف في لحظة من اللحظات؛ فثمّة أغنية وطنية وأخرى لأغراض العشق…إلخ، لكن ما ميّز الأغنية الكردية القديمة هو غوصها في تفاصيل الجسد، لدرجة الوصول إلى حدّ الإباحيَّة؛ وربما تم تجاوزها من بعض المؤدّين في ذكر الأعضاء الجنسيَّة بكلّ تحديد وبساطة، وبلغت الجرأة بالمغنيَّات أن يمدحن مفاتنهنّ الأنثويَّة في أكثر من أغنية، غير أنّها لا تندرج ضمن الإباحية المبتذلة، فثمّة جماليَّة تؤطّر المحتوى والمفردات المنتقاة بعناية شديدة، بعيدًا عن تطابق الألفاظ وصلاحيتها لأن تُغنّى، وثمّة انسجام ما بين النغم والكلام والمعنى المراد إيصاله، من خلال انزياحٍ لغويَّ مُستخدَم.
يقول عمي –البالغ من العمر 70 سنة: “إنّ أغلب الأغاني القديمة كانت تُغنّى في بيوتٍ أشبه بنوادٍ ليليَّة؛ لكن دونما أي وجود للأنثى، فالمرأة كانت تتنصَّت على الأغنية من خلف الباب فحسب، وكان ثمة طقسٌ مُمارَس لأداء الأغنية -على الرغم من المنع- إلّا أنّ السلطات لم يكن لها أن تصل إلى القرى التائهة في الريف الكرديّ. أحيانًا -وخلال المداهمات التي كانت تُنّفّذ لا لشيء سوى لبثّ الرعب في القلوب- كانت الأغاني تغنّى همسًا ويستمرّ الضجيج الداخلي الممزوج بالخوف والهلع من الاعتقال؛ والرغبةٍ في الاستمرار بالغناء.
هذه الثنائيَّة كانت تشكّل رعبًا لدينا؛ ولا زلنا -نحن المسنّين- حّتى هذه اللحظة لا نصدّق أنّ الأغنية الكرديَّة بدأت تشقّ طريقها -منذ سنواتٍ- نحو العلَن، وتؤدّى أمام أسماع من كان يمنع نفسه عن سماعها!” وعلى صعيد الأغنية وانسياقها نحو الإباحيَّة، يقول: “حقًّا، الأغنية الكردية كانت منفتحة على تفاصيل جسد الأنثى؛ وهي تشكّل ثقافة بحدّ ذاتها، فكلنّا يعلم مدى خطورة فتح موضوعات جنسيَّة ضمن المجتمع الكرديّ السوري، بسبب إشكاليَّات، يعود تاريخها إلى أزمانٍ غابرة مليئة بالخوف، ومتعلّقة بطريقة التربية على مدار سنواتٍ من القمع. الأغنية الكردية القديمة متحفٌ لـ “الأيروتيك” بشكله الحاليّ المتطوّر”.
على الرغم من سنوات الخروج إلى العلَن، واهتمام العالم بالكرد والفولكلور الكردي؛ لم يتسنّ -إلّا للقلّة من المهتمين- إبراز الجانب الروحي للأغنية الكرديَّة بشقّها القديم. تجارب نادرة نجحت في إبراز الماضي، والتشبّه بملامح المؤدّي قديمًا؛ السُحنة الرصينة التي تشبه ملامح ممثلٍ مسرحيّ غارقٍ في النصّ، ومتماه مع الدور الموكّل إليه بكلّ ثقة، إغماض العينين وحركات اليد والشلل اللحظيّ. وبما أن الأغنية شفوية مرتجلة أحيانًا، يتمّ التلاعب بالكلام، وتغيير بعض المفردات، أو اللعب على وتر الموسيقى أحيانًا أخرى؛ من دون محاسبة أو انتقاد. ويُعدّ هذا -في رأي الموسيقيين الذين عاصروا فترات ذهبيَّة لتاريخ الأغنية الكرديَّة القديمة- اعتداءً على أرواح من غنّوا وألّفوا الموسيقى.
وعلى هذا الصعيد أُسِّسَت فرقٌ موسيقية في دول أوروبا لنقل الغناء الكرديّ، لكنها في نظر القدماء كانت تشويهًا له؛ بسبب إدخال آلاتٍ لم تكن حاضرة وقتذاك.
طرفان متصارعان: طرفٌ يودَّ أن تبقى الأغنية كما كانت في اللحظات القديمة، وآخر يودُّ أن يوصِلَ الغناء إلى أكبر شريحةٍ من العالم ومخاطبتهم، عبر إدخال آلاتٍ لا تخصُّ الكرد، ولم تُستخَدم سابقًا. إنه نوعٌ من المخاطبة بلغةٍ يفهمها الجمع؛ متناسينَ –ربمَّا- أنّ النّغمَ الأصليّ يصلُ بسرعةٍ أشدّ إلى الأسماع، ويُرسَّخ في الأذهان، غربيَّةً كانت أم عربيَّة، والدليل على ذلك جدّاتنا الساخطات على أداء أغنيةٍ قديمة من مغنٍ حديث، ثمّة شتائم توجّه، شتائمُ من نوعٍ أليف