تحقيقات وتقارير سياسية

حكومة انتقالية أم مجلس عسكري

لم يُخطط السوريون الذين انطلقوا إلى الساحات والشوارع، طالبين الحرية والكرامة، لكيف سيكون شكل حكومتهم وتسميتها أو هندامها، إن كانت ببدلة عسكرية أم مدنية، لكن كل ما كانوا يشعرون به، هو أن العسكر تحكّموا بتفاصيل يوميّاتهم منذ أكثر من خمسين عامًا، واستهتروا بالحياة المدنيّة في بلد عُدَّ في كتب التراث العالمي أنه أول من أسّس للمدنيّة منذ آلاف السنين، وعندما تجمّع المئات منهم في حي الحريقة، وسط العاصمة دمشق، في 17 شباط/ فبراير 2011، بعد اعتداء عناصر من الشرطة بالضرب على شاب، هتفوا حينها: “الشعب السوري ما بينذل”، وكان واضحًا أن العفوية هي من وحّدت الأحاسيس، وأطلقت الهتاف، وحين انطلقت الثورة في آذار/ مارس، كان العسكر في مواجهتها، وهم من جعل يوميات السوريين تتوشّح بالسواد، وأكفّهم تتوضأ بالدماء.

 

الجدل الذي دار على أكثر من صعيد في أوساط السوريين، حول ما إن كان الاتفاق الروسي الأميركي يتضمّن تشكيل مجلس عسكري، يقود مرحلة انتقالية، أثار اهتمامهم ، إذ ترددت أسماء عدة خلال الفترة الأخيرة، منها العماد علي حبيب، والعميد مناف طلاس، للعمل على تشكيل مجلس عسكري، حبيب الذي ينتمي إلى الطائفة العلوية، والذي أُقيل من منصبه وزيرًا للدفاع، في آب/ أغسطس 2011، حيث أُشيع وقتئذ- أنه أقيل لرفضه زج الجيش في قمع الاحتجاجات ومواجهة المتظاهرين، على الرغم من أن وسائل إعلام النظام قالت بأن إقالته جاءت لأسباب صحية. أما طلاس المنتمي للطائفة السنّية، وابن وزير الدفاع الأسبق، مصطفى طلاس، فقد انشقّ وغادر البلاد في عام 2012، بمساعدة المخابرات الفرنسية، بحسب ما صرح به حينها من باريس.

 

طُرحت هاتان الشخصيتان لتشكيل مجلس عسكري، بتركيبة يتم توليفها في روسيا، وذهب بعضهم إلى تأكيد أن زيارة وزير الدفاع الروسي إلى مطار حميميم ولقاءه بشار الأسد بتلك الطريقة، كان لإبلاغه فحوى تلك التفاصيل، وعلى الرغم من أنه لم تصدر أي معلومات رسمية من جهات دولية، أو محلية حول فكرة المجلس العسكري، ولم يؤكد أو ينفي أحد من المعنيين تلك الأنباء، إلا أن طرح الفكرة -بحد ذاته- دفع السوريين إلى مناقشة احتمالها، ودراسة أبعادها، وتحليل نتائجها.

 

خروج طلاس وفكرة المرحلة الانتقالية

عندما غادر مناف طلاس سورية، طُرحت -لأول مرة- فكرة أن يقود المرحلة الانتقالية ضابط مُتمرس، وظهرت تحليلات ذهبت إلى أنه يتم العمل على تلك المرحلة، على أن يقودها طلاس بصفته العسكرية، واستند هذا التحليل إلى متانة علاقاته مع الروس والفرنسيين والسعودية، وبعض الدول العربية الأخرى، وكذلك علاقاته الداخلية مع ضباط الجيش السوري وبالذات الحرس الجمهوري، بوصف أن تلك العلاقات ستجعل المرحلة الانتقالية أكثر يسرًا، وكان لزيارته أنقرة، ولقائه بداوود أوغلو، وزير الخارجية التركي آنذاك، في تموز/ يوليو 2012، أثر في تدعيم هذا التصوّر، خاصة أن النظام كان يخسر بشكل كبير على الأرض، مقابل تقدم المعارضة، لكن سرعان ما خَفتَ الكلام، وعُدّ بالون اختبارٍ لكيفية استقبال الرأي العام السوري فكرة “قيادة عسكرية مرحلية”، ونبّه آخرون إلى أن الحلول السياسية لم تنضج بعد أصلًا.

من الطبيعي أن تُمَرِّر استخبارات بعض الدول أخبارًا غير مؤكدة إلى وسائل إعلام معينة، لتضعها بيد الرأي العام، وتدرس ردود الأفعال، ولكن بالنسبة للسوريين، وبسبب كثرة ما مرّ بهم من نكبات وتحوّلات ومفاجآت، ومن يأسهم من وجود حل قريب، باتوا ينظرون إلى فكرة مرحلة انتقالية بقيادة عسكرية، تخدم بناء الدولة المُرجوّة على أنها نوع من الخيال.

 

لماذا العسكر

السيناريوهات التي تُطرح أحيانًا حول خطّة، تتضمن مجلسًا عسكريًا، يقود المرحلة الانتقالية، قد تعود إلى أن القوّة العسكرية على الأرض أصبحت هي الفيصل، ولن يستطيع أي حكم مدنيّ مباشر أن يضبط الوضع، وذلك للتركيبة الميليشياوية بالنسبة للتنظيمات التابعة للنظام، وأيضًا لطريقة انتشار الفصائل المقاتلة ضد النظام وتبعيّتها وفوضويتها، كما أن ضعف النظام ومؤسسات الدولة التي استهلكها بحربه، لن تُعين الحكم المدني على حفظ الأمن وتثبيته، دون أن يكون لديه قوة عسكرية ضاربة؛ وعلى هذا، فإن مجلسًا عسكريًا مشتركًا، من ضباط منشقين مع ضباط من النظام ممن لم تتلوث أياديهم بالدماء، سيضمن الإمساك بدفتي المعادلة؛ لتثبيت واقع جديد.

 

لكن هذه الفكرة ترافقت مع الكثير من المحاذير، خاصة وأن تجربة السوريين مع عسكرة الثورة، وطريقة تعامل الفصائل المسلحة مع الناس والحياة العامة، وطريقة إدارة مواقعها التي تسيطر عليها، كانت تجربة غير مُشجّعة، وكذلك كانت تجاربهم مع السلطات العسكرية خلال العقود الماضية، وقمعها وسلطويتها وانقلاباتها المتكررة، ودفعت هذه التجارب كثيرين إلى الاعتقاد بأن أوضاع سورية لن تستقيم، إن حكمها العسكر مجددًا، ولو لمرحلة انتقالية، وقالوا: إن تشكيل مجلس عسكري في الوضع الراهن، هو إعلان حرب جديدة على المجتمع المدني؛ لمنعه من النهوض بنفسه، ومنعه من المشاركة في تنظيم وإدارة شؤون البلد.

 

ينظر كثير من الناشطين إلى أن عسكرة الثورة -بالأساس- هي بمنزلة ثورة مضادة، وأن أي مجلس عسكري، يتحكم بالسياسة الداخلية والخارجية، هو استمرار للثورة المضادة، وذلك لغاية تثبيت واقع مفروض، يعيد حكم العسكر من النافذة، وقد قامت الثورة لإخراجهم من الباب، ولهذا من المرجح أنه لا توجد فرص لنجاح الانتقال السياسي على أيديهم في سورية، وعلى هذا، فإن حكومة انتقالية تقود البلاد قد تكون فاعلة أكثر إذا ما أُقرّت؛ بحيث يكون العسكر بإمرتها، لتتعامل مع مجتمعٍ مكلومٍ ومشتّت، وفي بلدٍ دُمِّرت معظم بناه التحتية، وأهم مؤسساته الحيوية، ومن يسعى إلى مشروع مجلس عسكري مشترك، عليه أن يُقدّم ضمانات كثيرة للسوريين، محلية ودولية، بأن هذا المجلس لن يتدخل في الشأن السياسي، وسيكون جيشًا للوطن لا للهيمنة عليه، وأنه سيكون -أيضًا- ذراعًا تنفيذية لسلطة سياسية موازية، ترسم مستقبل سورية الديمقراطية والحرة.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق