مقالات الرأي

معركة حلب في عواصم أخرى

بالنسبة للنظام، هي معركة حاسمة، ستُمكّنه من فرض تصوره للحل على طاولة المفاوضات، بعد أن يُعلن نفسه منتصرًا، وبالنسبة للمعارضة، هي مسألة أكون أو لا أكون؛ معركة وجودية، قد تعني خسارتها انكفاء الأخيرة إلى جيوب معزولة، يسهل إخضاعها حصارًا وقصفًا وتجويعًا، وإمطارها بالبراميل الهمجية، كما هو الحال في غير مكان على التراب السوري المشبع بالحرب. تلك هي معركة حلب التي يُخطئ من يعتقد أن حسمها قريب أو مضمون لأي جانب.

 

لقد هدّأت تلك المعركة المخاوف المحقة والمحيقة، بعد إمساك النظام بطريق الكاستيلو، وأيضًا تلك المرتبطة بالسبات الأميركي الانتخابي، وأعادت بعضًا من الزخم إلى لمعارضة، بعد أن انحدر الحصار بمعنويات جمهورها. وللمفارقة، فإن شأنًا عسكريًا -بهذه الأهمية- يجري في وقت لا يُرتجى منه أي دعم نشط من واشنطن، بل -ولربما- استفادت القوى الإقليمية الداعمة للثورة من أفول شمس إدارة أوباما؛ لتمتلك هامشًا أكبر للدعم والتنسيق، متحررة من “فيتوهات” معطلة، لا يعني ذلك أن الخطوط الحمراء قد تلاشت، وأننا سنشهد تدفقًا لصواريخ “المانباد” (أرض – جو) المحمولة على الكتف، بما يُقوّض التفوق الجوي الذي يتمتع به النظام وحليفه الروسي، لكنه -بكل تأكيد- يعني الخروج عن إطار ما كان متوقعًا من مفاوضات التعاون العسكري بين قطبي الحرب الباردة السابقين.

 

لقد كان انقلابًا جذريًا وخطيرًا، أن تمد واشنطن يدها لموسكو عسكريًا في سورية، وهو شأن، كان سيترتب عليه كثير من التبعات خارج المسرح السوري، وبعيدًا جدًا عنه.  لكن إعلان “النصرة” فكّ ارتباطها بالقاعدة، وإطباق النظام -بدعم روسي- حصاره على حلب، وما أعقبه من توحّد الفصائل المقاتلة والإسلامية إلى جانب “جبهة فتح الشام”، في معركة مصير، كان منه أن أعاد عقارب الساعة إلى الوراء، ودفع أميركا إلى التريّث في ما كانت تسعى إليه.

 

لعل من تعقيدات الثورة السورية، وما أساء إليها في الوقت نفسه، أنها ارتهنت -بشكل كبير- لدعم فصائل “إرهابية” وأخرى متشددة؛ فلا يمكن لأحد أن يُجادل في أن “جبهة فتح الشام” ليست هي “النصرة” ذاتها، وأنه يسهل على الأفعى أن تغير جلدها بحسب الأحوال. أما أن تدعي تلك التزامها -فجأة- مشروعًا وطنيًا، وأذرعها الخارجية لا تزال ضمن صفوفها نشطة وفاعلة، هو محض وهم ودجل وتزييف؛ فتاريخ الفصيل يشهد عليه، حين تأخر طويلًا قبل أن يكشف عن وجهه الحقيقي وصلاته المشبوهة. لكن في المقابل، فإنها إلى جانب فصائل إسلامية أخرى، والأخيرة ذات مشروع سوري، وإن كنا نختلف معه، تتربع على عرش الأكثر قوة وفاعلية في مواجهة النظام، وليس سرًا أن حربًا مع “فتح الشام”، وفي هذا الوقت بالذات، لا تصب عسكريًا إلا في صالح الأسد وحلفائه. وخير مثال على ذلك، الاشتباكات السابقة بين “جيش الإسلام” و”فيلق الرحمن”، القريب من “النصرة” في الغوطة الشرقية.

 

أيًّا كان مسعى واشنطن وموسكو، وما خفي من اتفاقهما الذي أثار حفيظة حلفاء الجانبين قبل أعدائهما، فإن انخراط “جبهة فتح الشام” في معركة مصيرية مع الفصائل المدعومة من واشنطن نفسها، قد أربك الأخيرة، وجعلها تُراقب من الخلف، بدل أن تقود من الخلف.

 

من جهة أخرى، فإن معركة بهذا الحجم، بما هي عليه من استثمار للقوى الداعمة للمتصارعين، تكشف -نسبيًا- حدود التقارب الروسي التركي، وتخفف -أيضًا- بعضًا من مخاوف المعارضة من تحول جذري في موقف أنقرة، دون أن تزيلها كليًّا. صحيح أن الانقلاب الدبلوماسي الجاري على ضفتي البحر الأسود، أعاد أردوغان إلى مقربة من بوتين، “صديقه الحميم”، بحسب وصف الأول، لكن ذلك لم يكن -قطُّ- مستبعدًا أو مفاجئًا؛ فلأنقرة وموسكو مصالح اقتصادية وتجارية مهمة، في مجالات الطاقة والسياحة والسلع الغذائية، وتتشابك بينهما ملفات إقليمية كثيرة، وأخرى متعلقة بحلف “الناتو”، واستراتيجيته في مواجهة الصعود الروسي، بمعنى أن الكلام المعسول لا يعني -بأي شكل كان- نقلة محورية لتركيا نحو الشرق، ولا توافقًا في الشأن السوري.

 

لا يتجسد الشقاق بين الجانبين بأوضح مما عبّر عنه إبراهيم كالن، الناطق باسم أردوغان، الذي حدد نقاط الخلاف بمصير الأسد، وبكيفية تحقيق الانتقال السياسي، ووقف الاشتباكات، مضيفًا الخلاف حول حماية وحدة الأراضي السورية إلى القائمة السابقة؛ ما يشير إلى غياب التوافق في الشأن الكردي السوري، وأن موسكو قد تستمر باستخدامه ورقةً تضغط بها على أنقرة.

 

حين يتعلق الأمر بروسيا، تضع تركيا نصب عينيها عدم الذهاب بالتوتر في علاقاتها مع الناتو إلى أقصاه، وخطر خسارة نفوذها، وثقة شركائها في سورية، وتهديد الملف الكردي عمومًا، كمسألة تربطها بأمنها القومي، وأخيرًا، إن بوتين شريك لا تنظر له أنقرة بعين الثقة؛ وعليه، فمن غير المحتمل أن تجد التسويات الكبرى في سورية طريقها إلى التنفيذ، والأكثر ترجيحًا هو تنسيق محدود، أو حتى تعاون مشترك، في القضايا المتفق عليها، كـ “داعش” مثلًا، مقابل أن تمتلك تركيا هامشًا أكبر في الحد من الطموحات الكردية في جنوبها الشرقيّ، أي: ما هو أشبه بالمشي على حبل رفيع وهش، يراعي التوازنات الدقيقة التي تحكم العلاقة بين الجانبين، وقد تستخدم فيه أنقرة كل أوراقها، بما فيها المعارضة السورية، لكن بحذر وتروّ.

 

عودًا على بدء، فإن أهمية معركة حلب بالنسبة لجميع اللاعبين، محليين وإقليميين ودوليين، تنذر بأن أيًّا من الأطراف لن يألو جهدًا في تعزيز موقعه فيها، ولا سيما أن للمحاربين قدرة على الصمود وليس الحسم، وهو ما يُترجَم عمليًا بحرب قاسية، ويدعم الرأي القائل بأنها قد تكون حرب استنزاف طويلة، ذلك، إن تمكنت المعارضة من الحفاظ على مكتسباتها الأخيرة. كما أن موازين القوى ميدانيًا، وسيطرة النظام وحلفائه على الجو، إضافة إلى غياب البيئة الحاضنة في حلب الغربية، تجعل من هدف المعارضة المُعلن بـ “تحرير المدينة كاملة” موضع تساؤل، وفي الوقت نفسه، فمن الحكمة القول إن مسرحًا كالمسرح السوري، قد لا يكون بعيدًا عن المفاجآت المرتبطة بتبدلات خارجية غير مرجحة، كما كان عليه الحال حين تدخلت روسيا، أو حين عرض عليها الخصم الأميركي تعاونًا عسكريًا.

 

يبقى أن نحتفظ بقدر من التفاؤل؛ إذ يكفي أن المعارضة استعادت زمام المبادرة، بعد أن قبض عليها النظام -إلى حد كبير- منذ مرحلة ما بعد التدخل الروسي.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق