خمسُ سنواتٍ انقضت من عمر سورية، ولا يزال النظام السوري وحلفاؤه، يتفنّنون في قتل السوريين وتشريدهم، حتى توصلوا إلى سلاحهم الأكثر فاعليّة في تجسيد الإجرام، ألا وهو التجويع، الذي أصبح واحدًا من أهم أسلحتهم، يشهرونه متى يشاؤون في وجه من يقف في طريقهم، فالتجويع هو ذلك السلاح الفتّاك، ذو التدمير الشامل والنتائج الاستراتيجية المبهرة، استطاع النظام -من خلاله- تحقيق ما لم يستطع تحقيقه بكل ما حوته ترسانته العسكرية، الحافلة بأسلحة محرّمة، أو مسكوت عنها دوليًا.
استخدم النظام السوري سلاح التجويع منذ اندلاع ثورة الشعب ضد حكمه الاستبدادي، في منتصف آذار/ مارس 2011، عندما حاصر مدينة درعا، وقطع عنها الماء والغذاء، وربما دفعه شعوره بنجاح التجربة إلى تعميمها على بقية الجغرافية السورية الثائرة؛ فحاصر أحياء حمص القديمة، وسط وقوف المجتمع الدولي متفرّجًا، الأمر الذي اضطر المحاصَرين لتسليم الأحياء الحمصية القديمة، وفق اتفاق تهجير قسري رعته الأمم المتحدة، وحاصر أربع بلدات في دير الزور، وانتقل بعدها إلى ريف دمشق بغوطتيها، فكان حصار معضمية الشام وداريا ومضايا، وقد وثّقت منظمات حقوق الإنسان وفاة ما يزيد عن مئتين وستين شخصًا في تلك المناطق، معظمهم من الأطفال وكبار السن؛ نتيجة الجوع وفقدان الأدوية، وأفتى بعض علماء الدين بتحليل أكل القطط والكلاب لأهل الغوطتين، في حال وُجدت؛ لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من أرواح أبرياء جياع.
حصار شديد الوطأة
منذ ما يزيد على سبعة أشهر، تُحكم قوات النظام حصارها على معضمية الشام، مانعةً دخول وخروج السكان، أو إدخال أي مواد غذائية وطبية، ومحوّلةً حياة ما يزيد على 45 ألف مدني من السكان، إلى معاناة غير مسبوقة، وتدور معارك عنيفة على الطريق الواصل بين درايا ومعضمية الشام، وسط عجز الثوار عن تحريره بالكامل؛ بسبب القصف المكثّف الذي تتعرض له المدينة، عقب إحراز الثوار لأي تقدّم.
تتبع معضمية الشام لمحافظة ريف دمشق، وتبعد 4 كيلومترات عن مدينة دمشق، من جهة حي المزة. أما موقعها -عسكريًا- فتتوسط نقاطًا عسكرية عدة تابعة لقوات النظام، يحدّها من الجهة الشرقية حي المشروع الذي يقطنه ضباط، أغلبهم من المخابرات الجوية، إضافة إلى عائلاتهم، ومن بعده يوجد مطار المزة العسكري، ومن الشمال تمتد جبال المعضمية، وفيها الفرقة الرابعة، ومساكن السومرية ومساكن الشرطة، وأما الجهة الغربية فيوجد فيها مساكن يوسف العظمة، إضافة إلى مساكن سرايا الصراع، وبساتين مدينة جديدة، وجنوبًا تقع مدينة داريا التي تُعدّ أيضًا من المدن المنكوبة والمحاصرة، والتي يسعى النظام إلى تطويقها وتطويعها بالكامل، أي أن جغرافية المدينة كانت سببًا مساعدًا في تمكين الحصار الذي فرضه النظام عليها، منذ أوائل العام 2013، والذي راح ضحيته عشرات من المواطنين أواخر العام نفسه، نتيجة هجوم نفّذته قوات النظام بالأسلحة الكيماوية.
لم تمنع الهدنة المُبرمة بين الثوار وقوات النظام مطلع عام 2014، من تكرار حصار معضمية الشام، ضمن سياسة التجويع التي انتهجها في حربه ضد المدنيين؛ لتهجيرهم بحسب شهادات من سكان المدينة.
تدهورت أوضاع أهالي معضمية الشام خلال الأشهر الفائتة بشكل خطر، نظرًا لانعدام أغلب المواد الغذائية، وفقدان أبسط مقومات الحياة من ماء ودواء وغذاء ومحروقات وكهرباء؛ ما دفع أهالي المدينة للاعتماد على الحشائش والبقدونس والخس والكزبرة، التي يعملون على زراعتها في أراضيهم، أما المركز الطبي الوحيد، فلم يتوقف عن استقبال عشرات الحالات من أطفال وكبار سن، مصابين بسوء تغذية وجفاف، على الرغم من قلة إمكاناته؛ الأمر الذي ينذر بكارثة صحية وطبية حقيقية.
صمود لا ينضب
في الأيام الأخيرة، صعّدت قوات النظام، والميليشيات المساندة لها، القصف المدفعي والصاروخي على الأحياء التي تصل معضمية الشام بداريا، وأكدّ ناشطون لــ (جيرون) أن قوات النظام تقدّمت من جنوب درايا، بالتزامن مع قصف مدفعي، من مواقع لقوات النظام في جبال معضمية الشام شمال غرب داريا، وقصف جوي مكثف، مكّن القوات المهاجمة من التوغّل في درايا، والسيطرة على مزارع، كانت تمد المحاصرين داخل المدينتين ببعض الغذاء.
إلى ذلك، منعت قوات النظام، في أوائل حزيران/ يونيو الماضي، دخول جزء كبير من المساعدات الغذائية الأممية إلى معضمية الشام، والتي تتضمن طحينًا وسلالًا تموينية، وسمحت بإدخال جزء بسيط منها، ويأتي دخول المساعدات إلى معضمية الشام، وسط مفاوضات بين قوات النظام ولجنة مفاوضة عن المدينة؛ لفك الحصار عنها وإدخالها في الهدنة، في حين بات واضحًا أن النظام لا يريد تضمينها في الهدنة، وأنه يماطل؛ ليستكمل عملياته العسكرية في داريا أولًا، ومن ثم ليقتحم معضمية الشام، ويُخرج أهلها منها.
على الرغم من صعوبة المشهد في الأيام الحالية، إلا أن أهالي معضمية الشام، ووفق كثير من شهادات السكان، لن يستسلموا ولن يقبلوا بالخروج من أرضهم، ولكنهم بحاجة إلى دعم مُستعجل، من المنظمات الإغاثية التي لم تعد تبدي رغبتها في المساعدة، إلا فيما ندر، وهذا يتطلب تكثيف الجهد، والقيام بمشروعات تشاركية إعلامية إغاثية، تأخذ على عاتقها توحيد العمل؛ للوصول إلى حلول فورية.
يُذكر أن قوات النظام والميلشيات المساندة لها، فصلت بين معضمية الشام وداريا، بعد عشرات الغارات الجوية الروسية، في كانون الثاني/ يناير الماضي، في حملة عسكرية استمرت لشهرين، وهدفت إلى عزل المدينتين عن بعضهما، وقطع الإمداد عن مقاتلي داريا، والضغط على المدنيين في المعضمية؛ للخضوع لشروط الهدنة التي تتمثل بتسليم مقاتليها أسلحتهم، وتسوية أوضاع المنشقين والمتخلفين عن الخدمة العسكرية، وإفراغ المدينة من سكانها، وهي شروط رفضها الثوار وأهالي المدينة بشكل قطعي.