ننطلق من مـقـولة أن الفنون الجـمـيلة “التشكيلية”، هي اللغة البـصرية الوحـيدة التي تحقق التفاهم الإنساني، وتعمق اواصر الصداقة والتوافق والاحتواء، والتفاعل النفعي الحضاري، والثقافي والجمالي، ما بين الشعوب والأفراد، بعيدًا عن تأويلات الكلام المكتـوب حـول النص الفني التـشكيلي؛ وهي بذلك تشكل لغة عالميـة فـوق القوميات، وحدود الجغرافيا الإقليمية للدول والأديان وأنماط الأيديولوجية المحلية والقومية.
متجاوزة كل المفاهيم الإيهامية بمحدودية الفن التشكيلي، وقدرته على التواصل في صناعة حضارة إنسانية شمولية متكاملة البصمات، وجامعة للهويات والخـصوصيات، نرى أن الحركة الفنية التشكيلية السورية لم تتبلور كوجود ثقافي وذاكرة بصرية، مستقلة عن مرجعيات منتمية إلى ثقافة وبصريات الآخر، في الضفة الأوروبية الأخرى، وما زالت في طور التجريبية المبررة، والمفتوحة على التنوع والاختلاف المفاهيمي والشكلي والتقني، في إنتاجـية كمية (نشاطية) تدعو إلى التفاؤل، ومشروعية الطموح المستمر، في إيصال المنتجات الفنيـة الفـردية السورية، ورودًا طرية وندية في حـديقـة الفن التـشكيلي العالميـة، حـاملة في منتجاتها المكونات الرئيسة في هذه الحركة؛ من حـيث المنتج الفني (الفنان)، والعـمل الفني، وجمهور النخـبة، المتمثل بالمقتني، والتاجر المروج، والصحافي الإعلامي، والناقد الفني المتخصص، ووسائل الإعلام المتنوعة -في مجملها- تدور في فلك التفاعل مع الآخر الثقافي، محاكاة وتقليدًا، لا سيما الفن الأوروبي الغربي الذي تشكل منتجاته وتجاربه الفنية التشكيلية مركز الاستقطاب العالمي، كمرجعيات لا فكاك من الاقتداء بها في أي عملية ابتكارية، أو تجربة فردية معرفية أو بصرية، ليس في سورية وحسب، بل في عموم بقاع الكرة الأرضية.
من هنا نعتقد أن الإشارة إلى مرجعيات وذاكرة الحركة الفنية التشكيلية السورية، المعرفية والأكاديمية البصرية، ضرورة منطقية ومنهجية، يتحقق من خلالها عملية التكامل والشمولية الثقافية، ما بين الشعوب والدول والهويات المحلية والقومية المجتمعة، في بوتقة عالمية واحدة. يمكن تصنيف هذه التراكمات المعرفية البصرية المرجعية
في أربعة مصادر رئيسة هي:
- الذاكرة البصرية الأوروبية الأكاديمية (نمط منتجات عصر النهضة الايطالية).
- الذاكـرة البـصـرية الأوروبية الحـديثـة، “الحداثة وما بعدها” (نمط منتجات أوروبا الغربية والشرقية).
- الذاكرة البصرية المصرية، ذات المرجعيات الأوروبية والغربية والشرقية.
- الذاكرة البصرية الاستلهامية من وحي التراث، المتحققة بحرفية الأرابسك، أي: التشكيل الحروفي، والحرف: الحركة التشكيلية السورية المهنية، والأوابد التاريخية الحضارية للممالك السورية القديمة المغرقة في القدم، والمحملة بمقولات أسطورية، وأخرى تسجيلية للأماكن الخلوية للطبيعة السورية المتنوعة.
هذه المرجعيات الأربع، التي تضم في خلفياتها الفكرية والبـصرية، بحسب التوصيف الأوروبي الغربي، كمجـالات ومـيـادين الفنون الجميلة “التشكيلية” الخمسة – سالفة الذكر- في سياقها التخـصصي، المعمول به أكاديميًا في كلية الفنون الجميلة، والمعاهد الفنية السورية ذات الصلة، تدور في جميع الأحـوال في دوامـة التـفـاعل البـصـري التجريبي، وفردية الفن ونخبويته في المسارات التواصلية كافة، والتي لا تنفصل -بشكل أو بآخر- عن النزعات المركزية الغربية الأوروبية.
مدارس وعلامات فنية مميزة في الفن التشكيلي السوري
كما سبق وأشرنا، فالفنان التشكيلي السوري ابن تجربته الثقافية البصرية، غير المحدودة في نمط قـسـري أكـاديمي، ومنتـجـاته الفنيـة التشكيلية قائمة -أساسًا- على الحرية التأليفية في اخـتيار الموضوعات، وعناصر ومفردات ورموز التكوين، وتقنياته، وبنائية العمل الفني في صورته التعبيرية النهائية، واللصيقة بطبيعة الحال بالتفرد الأسلوبي والخصوصية التعبيرية والتقنية لكل تجرية فنية سورية.
فإن التنوع والاختلاف هما المجـال الحـيـوي لكل ذلك النشـاط الكمّي في الحركـة الفنية التشكيلية، الذي لم يفرز -حـتى اللحظة- فنًا تشكيليًا سوريًا خالصًا. بل تنهل عموم التجارب الفنية من بحر التنوع المدرسي والمعالجة التقنية؛ إذ نجد في المنتج الفني الواحد عموم المدارس والاتجاهات الفنية، ذات استنسابية أوروبية غربية، في سياق مستنسخ حينًا، ومنسوخ في كثير من الأحيان، موزعة ما بين الواقعية الكلاسيكية، مرورًا بالتعبيرية، الواقعية، الرمزية، وحرفية الأرابسك، وصولًا إلى التجـريد، وفنون مـا بعد الحـداثة “الشيئية”، وإن كانت أغلبية الأعمال الفنية التشكيلية، متراوحة في كثير من الأحيان ما بين المدارس الثلاث اساسية (الواقعية التعبيرية، والتعبيرية الرمزية، التعبيرية التجريدية)؛ أي: إنهـا تراوح في حدود المدرسـة التـعبيـرية، ذات الأنفاس الألمانية، التي تجد لدى الفنان التشكيلي السوري راحة تأليفية، وانسجامًا نفسيًا وانفعاليًا، واستحـضارًا ملهمًا لذاته الفكرية والفلسفية والبصرية، متوافقًا مع حقيقة الواقـع العربي المعاش، وما يتعرض له الوطن العربي عمومًا، والسوري خصوصًا، من تحـديات داخلية وخارجية، لا سيما مسألة الصراع العربي- الصهيوني، وطبائع الاستبداد الحكومي، واندماج الفنان التشكيلي السوري مع أحداثه وتفاعلاته وطنيًا وقوميًا وإنسانيًا.
ثمة علامات فنية تشكيلية سورية فردية، حفرت لذاتها الابتكارية “الإبداعية” بصمات عميقة في مساحة الفن التشكيلي السوري والعربي والعالمي، والمدربة فنيًا وتقنيًا، وفق التربية الفنية الأكاديمية الغربية الأوروبية؛ ففي مجال التصوير، برع الفنان “فـاتح المدرس”، في تكريس ذاته الفنيـة، كـحـالة ثقافية سورية مشهودة، وجعلته ذاته الابتكارية متنوعة الاهتمامات، يلعب دورًا رئيسًا في ثقافة العـديد من الأجـيال الفنية السورية، وأمسى مـرجـعـيـة لهم في أعمـالهم، على الرغم من مرجعياته الأوروبية الغربية.
أما في مجال النحت، فقد تفرد الفنان النحات، سعيد مخلوف، بذاته الابتكارية، وتفرده الأسلوبي والتقني، وخروجه الملحوظ عن مرجعيات الذاكرة البـصـرية الأكاديمية، والأوروبية الغـربيـة في آن واحد. مقدمًا تجاربه البحثية في اكتشاف قدرات الخامات البيئية السورية على التطويع والعطاء الفني المثير للتفاعل، والبصريات الحافلة بكل أسرار وجماليات المكان السوري، في حديثه وقديمه، عبر توليفاته التقنية والشكلية، على خـامات الخـشب المتنوع والصلصـال والزجـاج والعظام وسواها، مستنبطًا خصوصية سورية خالصة في هذا الاتجـاه الابتكاري “الإبداعي”، وشكل ذاكـرة بصـرية للعـديد من النحـاتين السـوريين، في تعبيريته الفطرية المحملة بهموم الإنسان اولا وأخيرا.
أما في مجال فنون الحفر “الغرافيك”؛ فقد بقي هذا الفن أوروبيًـا خـالصا على الرغم من وجـود ملامح جمالية وتقنية حافلة في المواقف البصرية التاريخية العربية المغرقة في القدم، مثل الأختام الاسطوانية والمسكوكات والألواح الطينية المكرسة لأبجديات التاريخ الإنساني؛ حاول الفنان علي سليم الخالد، من خلال تقنيته المفضلة الحفر الحجري “الليتوغراف”، أن يستحضر رموزه من البيئات السورية المتعددة، لا سيما أوابد مدينة تدمر في توليفة تقنية، ومحتوى موضوعي يحـدد تجريبيته النشطة، وليشكل من أسلوبيته ملاذً بصريًا لبـعض الحـفارين في الوسط الفني التشكيلي السوري.
وسورية التي نُحب ونشتهي، تعيش حالة المخاض مع طغمتها الاستبدادية والقهرية، وغزاتها متعددي الجنسيات، وما حفلت به سورية وشعبها المكلوم والمظلوم من مآس وقتل ودمار, وجد الفنانون التشكيليون الشرفاء والمنحازون إلى خيارات شعوبهم ووطنهم ومواطنتهم في الحرية، يشقون الطريق برؤية استشرافية من خلال فنونهم البصرية متعددة الوسائط والتقنيات, تحمل في مضامينها روح التمرد والمقاومة وبناء مستقبل جديد لسورية الحرة ولأجيالنا المقبلة.
تعليق واحد