“لم يكن صباحًا أرضيًا يختلف عن غيره من الصباحات البشرية، فالشمس تطل بشعرها الذهبي من وراء الأفق بعد نومة هانئة، والضياء يتسرب في العتمة، كما يتسلل النعاس -في غفلة- من جسد بشري يقظان”.
هكذا يهمس لؤي خليل، مازجًا بين عالمين: عالم الأرض وأبطاله البشر بكل تناقضاتهم، و عالم السماء
وأبطاله الملائكة بكل طهرانهم ونقائهم؛ فيلتقيان في “هسيس الملائكة”، موقظًا فينا سحرية السرد العجائبي المتمثل بالقول: “إن زمن المعجزات لم ينته بعد”، فشخصيات الرواية محكومة مسيرة بالفطرة، لكنها فطرة متمردة على الواقع، وهنا تقع محاولة استرداد السحر النقي للحياة، بعد طول تغييب.
وبين الواقع والمعجزة خط واه، كما بين القرية التي وقعت فيها أحداث الرواية “عين جورية”، والبحر الذي اجتازها بمدّ عظيم، جاء بعد ليلة ضج فيها دعاء أهل القرية، المتململين من روتين الحياة، في سماء ملبدة بالملائكة ليغلق على القرية، التي انعزلت عمّا حولها؛ بسبب غمر البحر للمنطقة الواصلة بينها وبين البر،ّ حيث سوريّة. فيصبح أهلوها كأنهم في سفينة تائهة في عرض البحر، لا يدرون، أهي سفينة النجاة من الطوفان؛ أمّ السفينة التي يغرق فيها السوريون؟
هنا تفتح أيضًا لروائينا هوامش تجريب واسعة، من خلال تحشيد سلس للمشاهد السردية بين “الإنس والملائكة”، وليطغى جو من السحرية الواقعية، التي مرت بعصاها على القرية المحكومة بواقع أزلي، ثابت على مبدأ “كلّ مقدر لما خُلق له”، إلى معجزة “الملل” الذي تسجد دعاءً، أجمع عليه أهالي القرية لزلزلة هذا الثابت، فـ “الملل “، هنا مورافياتي (نسبة إلى ألبرتو مورافيا) يصنع التغيير، أو كما يقول أنيس منصور عن الملل: “يحس الإنسان كأن مرضًا أصاب الدنيا.. إنها بدأت تذوي وتجف .. إنها تتساقط” وهنا برزت فنية الكاتب لؤي خليل باحترافية، جمعت خيوط السر في الحكاية، وربطها بإتقان؛ للخروج بنص له نكهته الخاصة التي تشي بقدرة الكاتب على بناء قصته، محركاً لوحه النصي داخل متنه القصصي، فيخرج الخيال دافقًاً من بين حنايا الواقع.
وتستحضر الثورة السورية في إدراك القارئ، وهو يعايش أبطال العمل، وقد اتفقوا على الرغم من اختلافاتهم كلها، على دعاء واحد في التوقيت ذاته، أن يجري حدث عظيم، يغسل آثار الماضي في حيواتهم المتعثرة، كما حدث في مختلف مدن وبلدات وقرى سورية.
وبالدعاء أيضًا، توقع “عين جورية” الملائكة -مرة أخرى- في الحيرة من ابن آدم، “الملول” من كلّ شيء.
إذن، هسيس الملائكة مرآة لمحاكاة الإنسان السوري، بتفاصيله “الفطرية”، إنها خريطة للإبحار في متاهات النفس البشرية، فما إن تشرع في رفع شراع هذا الهسيس، معلناً الإبحار، حتى تجدك نفسك واقفًا في أحد شوارع “عين جورية”، لاهجًا بالدعاء مع باقي أهالي القرية.
وأخيرًا يغادرنا لؤي خليل، والجزيرة مشرفة على غير المتوقع، في انتظار معجزة سورية، تختبئ في المجهول.